« تمكين المرأة… لماذا ؟ وكيف ؟ » بقلم الدكتورة نهلة عبد الله الحريبي

قال الفيلسوف الفرنسي المسلم روجيه جارودي إن « أول اضطهاد عرفه التاريخ هو اضطهاد النساء ، مما يجعل نسف الأسس التي يقوم عليها ذلك الاضطهاد خطوة ضرورية لنسف كل اضطهاد آخر. » [1] وقد يجادل المؤرخون جارودي في مدى صحة هذه الفرضية ، ولكن مما لاشك فيه أن المرأة عانت أشكالا شتى من الظلم عبر التاريخ من قِبَل الرجل ومن قِبَل المجتمع ككل. ولا أدل على ذلك من تضمين الرسول صلى الله عليه وسلم في الخطبة التي ختم بها رسالته العظيمة أمرا مؤكدا على احسان معاملة النساء وزجرا رادعا عن استضعافهن أو اذلالهن. ومما لاشك فيه أيضًا أن إنشاء  جيل حر كريم واثق يغالب الجور السياسي والرأسمالي والعنصري وغيرها من أشكال الضيم يتطلب وجود امهات وزوجات غير مُضْطَهَدَات.

اذا فضرورة تمكين المرأة من حقوقها وتفعيل قدراتها بشكل اكثر ايجابية وانتاجية هو موضوع متفق عليه عند الأغلبية ، ودواعيه لاتكمن فقط في المجمتعات الاسلامية والعربية ، كما يروج لذلك الكثيرون ، ولكن أيضا في الدول التي قطعت شوطا هائلا في التمكين السياسي والاقتصادي والاجتماعي للمرأة. فالمرأة في الغرب لازالت تعاني من مشاكل جمة وأزمات مستحكمة برغم انجازات « تحريرها وتمكينها ». غير أن المختلف حوله هو : ماالذي نقصده بـ « تمكين المرأة » ؟ وما الهدف من السعي اليه ؟ وكيف يمكن تحقيقه ؟ ولكي لايكون سعي المرأة العربية للتمكين محصورا في الانقيادا غير الواعي لمشاريع مثيلاتها الغربيات والاقتفاء غير الناقد لأثرهن في معالجتهن لمشكلاتهن، يطرح هذا المقال تصورا عاما حول تمكين المرأة العربية من خلال مناقشة الأسئلة أعلاه .

مع التأكيد على ضرورة الاستفادة من مفهوم تمكين المرأة ، ينبغي التنبيه إلى ضرورة تحرير المصطلح من اسقاطات ومتطلبات الثقافة والتاريخ والظروف المجتمعية الخاصة بالغرب ، فبيئتنا التاريخة والثقافية تجتمع مع الغرب في بعض الجوانب الانسانية الشاملة ، ولكنها تختلف عنه جذريا في جوانب اخرى .

من المعروف أن حركة تحرير المرأة أو حركة الأنثوية Feminism  نشأت تنظيميا وفكريا في اوروبا ، وارتبطت نشأتها بظرفين تاريخيين رئيسيين: الثورة الصناعية وما انبنى عليها من نظام رأسمالي ، والحروب الأوروبية . فبعد أن تحررت اوروبا من السيطرة الكنسية الخانقة ، تبنت مبادئ الحربة الفردية واللذة والاستهلاك والتنافس المادي الحاد كأسس للمجتمع الجديد . وساهمت الحروب الاوروبية والتي ذهب ضحيتها ملايين الرجال في ابراز دور المرأة الاقتصادي والاستقلالي . وأخرجت المرأة الى ميدان الانتاج لتفي بحاجات السوق الرأسمالية المتنامية ولتسد مكان الذكور الغائبين عن اسرهم . واستغلت المؤسسات الرأسمالية المرأة مرتين : مرة كعمالة بثمن بخس ، وأخرى كمستهلكة لمنتجات الزينة ، وتفننت الآلة الاعلامية الغربية الرأسمالية في ابراز مفاتن جسد المرأة وجمالها المادي بمعايير ومقاييس تتبدل بحسب احتياجات السوق ، وكرست فكرة أن المرأة جسد . فانطلقت المرأة تناضل من أجل المساواة والحرية .

أما في مجتمعاتنا ، فمما لاشك فيه أن المرأة ، كالرجل وان كان نصيبها اكبر ، قد رزحت في عصر الانحطاط تحت وطأة مظالم كثيرة ، اذ كثيرا ما حُرِمَت من معظم حقوقها التي ضمنها الاسلام ، مثل نور العلم والمعارف ، وحرية اختيار الزوج ، وحق الارث ، وحق المشاركة المؤثرة في الحياة العامة ان ارادت ، وقبل ذلك وبعده حق اعتبارها والتعامل معها كإنسان مستقل ذي كرامة آدمية مساوية تماما لأخيها الرجل وعليها مسؤولية فردية أمام خالقها . ولقد كان الاستبداد السياسي والتخلف الثقافي عبر تاريخ مجتمعاتنا العربية هما المصدرين الرئيسيين ليس فقط لتخلف وانتكاس ادوار المرأة بل والرجل والمجتمع ككل ، وان كان دائما نصيب المرأة مضاعفا باعتبار انها معرضة لاستضعاف ذوي القربى من الرجال الى جانب الطغيان العام للمجتمع والدولة .

إن تمكين المرأة من منظور اسلامي يعني انعتاقها من كل ما يحكم عليها بالعبودية لغير الله والتأكيد على هويتها ككائن انساني يعيش ويتعامل مع الآخر وفق مقتضيات الانسانية التي تتجاوز الخصوصية الجنسية ذكرية او انثوية . فالاسلام يحث المرأة – كما الرجل – على تحطيم أغلال الاستغلال والاضطهاد بكل أشكالها ، وعلى رأسها استغلال رأس المال والاستبداد السياسي ، وأغلال ايديولوجيات التخلف البالية والتبعية الدونية للغرب الذي يشكو اصلا من تفكك وازمات . إن مقدار الفساد والاستبداد اللذين تعاني منهما مجتمعاتنا العربية ينبغي ان يدفع بالمرأة دفعا الى التصدي لاصلاحه والتسلح بالجرأة والشجاعة في اقتحام ميادين ومؤسسات النهضة الشاملة بدون تردد وضمن اطار انسانية الاسلام . وما الحضور القوي المتألق  للمرأة بشكل عام والمرأة المتدينة المحجبة بشكل خاص في الثورات العربية الا مرآة عاكسة لمدى انتشار وشعبية اطروحات الفكر الاسلامي المعاصر في هذا المجال.

واذا ماراجعنا أدوار المرأة الحيوية والفاعلة في عصور ازدهار الاسلام ، واذا ما اجرينا جولة سريعة في كتابات المجددين من مفكري ومفكرات الاسلام ، نجد دعوة صريحة الى ضرورة إحياء مفاهيم ومبادئ الاسلام فيما يتعلق ليس فقط بحقوق المرأة الفردية ولكن ايضا بواجباتها النهضوية . من هذه الواجبات المشاركة السياسية والتي تعتبر ، برأيي ، في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ امتنا الحاسم واجب ، اكثر منها حق ، ومسئولية على كل فرد قادر رجل او امرأة ان يشارك في حملها لانقاذ مجتعاتنا المضطربة مما هي فيه

كما أن خروج كثير من النساء للعمل لم يعد « حقا » يوهب لهن وإنما ضرورة اقتصادية فرضها على كثير من الأسر نمط الانتاج المعاصر وفشل السياسات الاقتصادية والتنموية . اذا فخروج المرأة الى المجال العام أصبح ضرورة اقتصادية واجتماعية تتطلب التضحية من قبلها والمساندة من قبل الزوج والاسرة . نعم ، ان خروج المرأة لهو تكليف وعبء أكثر منه تشريف وكسب . والا ، من منا لاتحلم بحياة عائلية هادئة ومستقرة تنعم فيها بالعطاء مما حباها الله من حنان وعطف ورعاية وحب وتجد في هذا العطاء ذاتها وسعادتها ؟ ومن منا ترنو الى تكبيل يومها بجدول عمل صارم من الثامنة الى الرابعة او ازيد تبتعد فيه عن مملكتها الصغيرة حتى اذا عادت عادت بجسد منهك وروح عليلة مما واجهته في يومها من صراعات سياسية واقتصادية واكاديمية ؟

كما أن كتابات بعض المجددين الإسلاميين يفهم منها أن تأصيل مفهوم التمكين شرعيا يشير الى وجوب فهم الرجال واعترافهم بحقوق النساء وكفهم عن ظلمهن بالزامهن منزلة دونية ماانزل الله بها من سلطان ولكنها نتجت من تفسيرات بعضها كان ابن بيئته وبعضها كان متخلفا عن تلك البيئة لمبادئ ونصوص اسلامية . وللأسف تسربت هذه التفسيرات الى كثير من الخطاب الاسلامي كجزء من الدين لايقبل النقد او المراجعة او التجديد .

إن الرؤية الاسلامية لتمكين المرأة تعمل على الدفع لتوظيف طاقاتها وحشد امكاناتها ليس من اجل الخلاص والانعتاق الفردي فحسب ، ولكن ايضا من اجل عملية التغيير والتنوير الاجتماعي الشاملة . وليس فقط كعاملة وناشطة في المجال العام الاقتصادي والسياسي ، ولكن ايضا كمتقنة لدورها الذي لايقل خطورة في المجال الخاص للأسرة الصغيرة وفي نطاق الشبكات الاجتماعية المتوسطة كالأسرة الممتدة ومجتمعات الجوار . ذلك لأن أي تحقير او تقليل من شأن هذه الأدوار انما يجني على المرأة نفسها قبل جنايته على من حولها في محيطها الأسري والعائلي والمجتمعي الحميم .

إن تحرير مصطلح التمكين ليناسب مجتمعاتنا يتطلب النأي به عن مفهوم الفردية والذي صاحب تمكين المرأة الغربية وادى الى تفسخ الاسرة والمجتمع . ينبغي أن نرعى ونحافظ ونشجع طبيعة وعلاقات الاسرة الممتدة وعلاقات الجوار كشبكات اجتماعية تحمي المرأة والطفل والرجل من امراض وكوارث الفردية الانانية والتي يرزح تحت عبئها الغرب وينادي العقلاء فيه الى ضرورة الرجوع الى العلاقات الجمعية الداعمة للأفراد وعدم الانجرار وراء الانجازات الفردية المنقطعة الصلة بمصلحة الجماعات والمجتمع .

وهكذا يمكن بلورة ماهية وأهداف وكيفية تمكين المرأة العربية في النقاط التالية :

  • يجب أن تنطلق المرأة الى العمل الخاص والعام من خلال رؤية شاملة لحياة الإنسان في هذه الدنيا باعتبارها فرصة لترقيه وتساميه اللامحدود – عن طريق النضال الداخلي والخارجي – وليس باعتبارها سباقا محموما على اللذائذ والمتع المادية الرخيصة
  • رفض لذوبان شخصية المرأة وانمحائها في شخصية الرجل بقدر ماهو رفض لتكريس الانانية الفردية في نفسيتها فتعيش في عالم انعزالي مسور بطموحات فردية مصادمة للجانب الطبيعي والإجتماعي في تركبيها وتركيب كل إنسان ذكرا أم أنثى.
  • رفض تقديس تطبيقات المسلمين وتفسيراتهم لنصوص الاسلام تحت تأثير مراحل تاريخية وثقافية معينة بقدر ماهو رفض الانجرار الاعمى غير المميز لنماذج التمكين التغريبية ، خاصة تلك التي تنبثق من السخط على الانوثة والرغبة في الترجل باعتبار ان تحرير وتمكين المرأة يقاس بمدى اقتراب جوهرها ومظهرها من الرجولة
    • عدم الفصل التعسفي بين تمكين المرأة الفردي ونهضة مجتمعها وامتها ، والعمل على تعبئة طاقات النساء للقيام بثورة تحررية شاملة على المستوى النفسي والاجتماعي والثقافي والسياسي في اطار قيم الاسلام . ذلك لأن نهضة المجتمع ستعود بالخير والازدهار اول ما تعود على افراده نساءْ و رجالا
    • الاستفادة من تجارب النساء في ثقافات مختلفة ومنها الغربية ، مع الاحتفاظ دائما بحق قيول او رفض ما يطرح علينا من قبل المنظمات النسائية العالمية بما يتوافق مع خصوصية ثقافاتنا وتحديات ظروفنا . واذا كانت الناشطات الغربيات يشترطن اتباعا حرفيا سلبيا لمشاريعهن ورؤاهن ، فان هذا نوع آخر من انواع التسلط والهيمنة ، حيث يؤدي بنا الى الانعتاق من ربقة السيطرة غير الشرعية لجهل الرجال والتقاليد البالية الى الوقوع تحت هيمنة الناشطات الغربيات ورؤاهن في التمكين والتحرر .

الدكتورة / نهلة عبدالله الحريبي


[1] نقلا عن راشد الغنوشي ، المرأة بين القرآن وواقع المسلمين

3 تعليقات

  1. […] فالمرأة ذات المكانة هي امرأة لديها القدرة الاقتصادية والقانونية للاستقلال بقرارها الذاتي، والقدرة الفكرية والاحترافية للاستقلال بقرارها الفكري والإفادة والاستفادة من الرأسمال الفكري المجتمعي، وربما المضي به خطوة إلى الأمام، ووضع لبنة أخرى في إصلاحه وبنائه، إن المجتمع بحاجة لكل أفراده من ذوي المواهب، ويحسن بهم أن يتطورا ويصبحوا قادرين على العمل والبناء رجالاً ونساء، لقد أصبحت مشاركة النساء بقوة في الحياة العامة ضرورة للمجتمع ومسؤولية تقع على الرجال والنساء (2013، د. نهلة عبد الله الحريبي). […]

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا