دين الأئمة مقابل الدين القيّم

دين الأئمة مقابل الدين القيّم
بقلم عُدَي سعد بَدّار*
1 – مقدمة
دين الأئمة هو أي عقيدة دينية محكومة بتنظيم فعلي من رجال نصبوا أنفسهم بأنفسهم كممثلين لله على الأرض، جاعلين أنفسهم الوحيدين الذين يملكون لوازم تفسير وتأويل كلمات الله ومشيئته، وهذا التنظيم الإداري يكون طبقياً ويجتمع أعضاؤه على الدوام لمناقشة « الحقيقة » فيما بينهم قبل أن يجمعوا على آراء تتحول إلى عقائد وشرائع ترسخ في المجتمع الذي يتشربه من دون أي سؤال أو نقد، بل إن مساءلة هؤلاء تعتبر إهانة ضمنية لهم، لأن مجرد وضعهم في موقع المدافع عن رأيه (الذي صار شرع الله) أمام العلن يجعله يفقد كبرياءه وهيبته. لذلك ينقلب من مدافع عن رأيه إلى مهاجم للذي يحاسبه على فتواه، فيتهمه بالكفر والزندقة والخروج عن الدين، وتعلو أصوات التابعين العميان لتخرس المستجوِب.
أما الدين القّيم، فهو الدين الروحاني الأصيل الذي يعبر عن علاقة الإنسان الفرد بربه خالق السماوات والأرض وما بينهما، تلك العلاقة المباشرة التي لا تحتاج لمفسر ولا وسيط، العلاقة التي ينادي بها الرسل والأنبياء وكل الكتب السماوية، كما سنرى لاحقاً.
________________________________________
2 – الصراط المستقيم
لقد جاء يسوع (عيسى) المسيح مصدّقاً بنبوة موسى (عليهما السلام) وبالتوراة التي أنزلت عليه على أنها كتاب الله [الإنجيل عن متى، الإصحاح 5، الآيات 17-20]، وفي نفس الوقت فقد كفّر المسيحُ الربّانيين والأحبار من علماء اليهود الذين يؤمنون بموسى عليه السلام والتوراة، معلناً بأنهم ضلوا عن الصراط المستقيم كما ذكر في الإنجيل [الإنجيل عن متى، الإصحاح 23، الآيات 1-37]، وقال بأنه جاء هادياً لبني إسرائيل ليعودوا إلى ذلك الصراط المستقيم، صراط الله الواحد الأحد. وكذلك جاء محمد (عليه الصلاة والسلام) مصدقاً بالتوراة والإنجيل على أنهما كتابان سماويان من الله الحق، وفي نفس الوقت رفض دور الأحبار والحاخامات والقساوسة في تضليل المؤمنين من اليهود والنصارى. وبالإضافة إلى ذلك، فقد كفر محمد بدين قريش الوثني واتهم عبدة الأصنام من العرب بالخروج عن ملة إبراهيم الحنيف، جد العرب. كذلك قبل 500 عام من ميلاد المسيح، اتهم البوذة كهنة الهندوس (البرهميين) وتعاليمهم بالتضليل، وقال للناس بأن يعودوا إلى الصراط الحق .
وموسى عليه السلام، الذي تبناه فرعون، كذلك وجد بني إسرائيل في ضلالة عن دين إبراهيم وإسحاق ويعقوب، وقد اتخذوا الأوثان والآلهات المصرية أرباباً لهم، يركعون لها ولفرعون. فثار موسى على أبيه وعلى فرعنته، وحرر شعبه المستعبد، وناداهم إلى العودة إلى الصراط المستقيم، إيفاءً بعهد الله لإبراهيم وذريته.
ليس هناك من شك في أن جميع الأديان السماوية المعترف بها في العالم كانت كلها قد أسست من قِبل رسل وأنبياء ثاروا على دين أئمة شعوبهم، وكذلك كانت قصة نوح وإبراهيم ولوط وداوود وسليمان، عليهم السلام، كلهم جاؤوا ليهدوا شعوبهم الضالة إلى الصراط المستقيم. وفي أعماق الصين قبل 500 عام خرج الفيلسوف الغامض لاوتسي بكتاب من خمسة آلاف كلمة، سماه « الطاو (道) »، وتترجم تلك الكلمة الصينية إلى « الصراط » بالعربية. إذاً ما هو هذا الصراط المستقيم الذي نادى به كل الرسل والأنبياء والصالحين منذ 5000 سنة؟
من أبيات إحدى ترانيم البوذيين، يقول فيها البوذة: « بأنفسنا يجب أن نمشي على الصراط، وما دور البوذة إلا الهداية إلى ذلك الصراط » [هستن سميث، ديانات العالم، ص 123]. ويتلو المسلمون من القرآن عدة مرات كل يوم: « اهدنا الصراط المستقيم. صراط الذين أنعمت عليهم… ». ، ويتلو الطاويّون من كتابهم المقدّس:  » ثابت واحد أحد…. لا أعرف له اسم، فسميته الصراط » [كتاب الطاوية المقدس، الفصل 25].
الصراط المستقيم هو الطريق الأنسب للإنسان أن يسلكه في حياته ويعيش على مبادئه مهما تغير الزمان والمكان. فهذا الصراط هو عبارة عن عقيدة، عقيدة أن لا إله إلا الله (أي أن الإنسان لا يعبد ولا يتذلل لأي شخص كان)، وأن يقوم بالأعمال الصالحة ويتقي الله. والكتب السماوية التي بين أيدينا اليوم كانت كلمات شفهية نطقها رسلنا وأنبياؤنا وحياً من الله، وكلهم نادوا إلى الهدى، إلى الصراط المستقيم، من دون وساطة أو وصاية أحد.
________________________________________
3 – الأنبياء والرسل ترفض دين الأئمة
لقد وصلت درجة مقت المسيح لأئمة دين أمته لأن يأمر أتباعه المؤمنين به بألا يصلوا في المعابد، بل أن يبقوا داخل بيوتهم ويقفلون الأبواب على أنفسهم في غرفهم عندما يصلون. كما وأمرهم بأن لا ينادوا أئمة اليهود (الربّانيين) بذلك اللقب، قائلاً لهم بأنهم جميعاً إخوة، وأن ما لهم إلا ربٌّ واحد لا يرى بالعين [الإنجيل عن متى، الإصحاح 6، الآيات 5-8]. وقبل أن يؤسر ويصلب، كان آخر ما صنع المسيح عليه السلام أنه قاد تلاميذه وأتباعه إلى معبد اليهود في القدس، فدخلوا المعبد وقلبوا طاولات الصرّافين وحطّموا بضائع التجار الفاسدين المستفيدين من الدين. وحاول محمد (صلى الله عليه وسلم) أن يصنع مثلما صنع المسيح في بداية رسالته، إذ حاول اقتحام الكعبة هو والمؤمنين الأوائل ليحطموا الأصنام التي فيها، ولكنهم فشلوا لقلة عددهم وكثرة من صدّهم بالقوة. ولكن النبي عليه السلام عاود الكرّة بعد عشرين عام، وكان من نصيبه أن يعيش ليرى ذلك النصر المبين، مقارنة بعيسى المسيح الذي صلب وقتل قبل أن تأتي ثورته ثمارها، فدخل مكة بجيش من عشرة آلاف مقاتل لم تشهد الجزيرة العربية جيشاً عربياً بمثل ذلك العدد والتنظيم . وكان محمد عليه السلام قد اتهم أحبار وربانيي اليهود وقساوسة المسيحيين بالفساد وتحريف الآيات عن معانيها، كما ذكر في القرآن الكريم [سورة التوبة 9:34]. وهو لم يتهم أئمة المسلمين بالمثل لأنه لم يكن هناك أئمة مسلمين بعد، واكتفى بالتحذير من تقليد أهل الكتاب الأولين من تعيين رجال دين!
ولكن للأسف، بعد أن توفي البوذة والمسيح ومحمد وموسى عليهم السلام، انقلب أتباعهم على تعاليم رسلهم وأسسوا مللاً سياسية باسم الدين وكتبوا نصوص وأركان الإيمان الخاصة بهم وجعلوا كل من خالف معتقداتهم كافراً وخارجاً عن الدين، محولين إياهم إلى مواطنين من الدرجة الثانية في أحسن الأحوال، وإلى كفار تحل محاربتهم بل وقتلهم في أسوأ الأحوال، يسمونهم مرتدون، وكانوا يعاملون كالخونة حيث أن الدين عندهم بمثابة المواطنة والانتماء للدولة في عصرنا.
وأصبحت مخالفة الحاكم (بأمر الله)، سواء كان ملكاً أو قساً أو خليفة، بمثابة مخالفة أمر الله عز وجل، حيث أنهم كانوا يعتبرون أن الله قد اصطفى أولئك الحكام بمشيئته، إذ أنه لو لم تكن مشيئة الله أن يحكم أولئك لما حكموا. هكذا أخرسوا المعارضين لحكمهم، وهكذا أقنعوا الناس الضالين بقتل المعارضين بحجة أنهم كفار.
طبعاً هذه السفاهة مخالفة للنصوص الصريحة من الكتب المقدسة التي أقرت بأن كل الناس سواسية، وبأن لهم الحرية في العبادة والاعتقاد، وبأن الله هو الذي يحكم في موضوع الكفر والإيمان في الآخرة، وليس في الدنيا [سفر المزامير، الإصحاح 7، الآيات 8-9 ؛ الإنجيل عن متى، الإصحاح 5، الآيات 7-11 ؛ سورة البقرة (2:113) ؛ سورة النساء (4:141) ؛ سورة الحج (22:69)].
________________________________________
4 – الكتب السماوية ترفض دين الأئمة
نستنتج بأن دين الأئمة هو في الواقع مخالف لتعاليم الكتب السماوية. فلا بابا الفاتيكان ولا الخليفة ولا الإمام ولا الربّاني ولا القسيس والبطريرك والمفتي والبرهمي واللامي، ولا منصب فيهم قد أقرّه الله في أي من الكتب المقدسة.
« ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّـهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا ۖ فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ ۖ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ (27) » سورة الحديد
فكل هذه المناصب ابتدعت بالرغم من رفض الرسل والأنبياء والصالحين، بل إنهم طالبوا الناس بالقضاء عليها. لقد عينوا أنفسهم بأنفسهم، وتزداد شهرتهم كلما أنعشوا الفرقة والمذهبية بين الناس. فإذا خالف إمام رأي إمامٍ آخر، اختلف جميع أتباع الإمام الأول مع جميع أتباع الإمام الثاني. فنرى اليوم مثلاً العداوة بين الكاثوليك والبروتستانتية، إذ يدّعي الطرف الأول بأن الثاني مرتد عن الكنيسة المقدسة وعن الدين، والثاني يتهم الأول بأنه حرّف الدين وخالفه منذ البدء. وتشيّع المسلمون والبوذيون واليهود على هذه الشاكلة.
ويصل دين الأئمة إلى أعلى مستويات الفساد عندما يحتل الإمام منصباً سياسياً في الحكم، متحولاً من داعية إلى سلطان، كما قال آينشتاين عن اليهودية: « إن معرفتي بطبيعة اليهودية الأساسية تجعلني أرفض فكرة دولة يهودية ذات حدود وجيش وسلطة دنيوية، مهما كانت متواضعة. إنني أخشى على اليهودية من التدمير الداخلي الذي سيصيبها بسبب قيام هذه الدولة. » ولقد رأينا عشرات الأمثلة في التاريخ ما يحدث عندما يتحول الدين من دعوة للهدى إلى سلطة سياسية تكره الناس على الهدى، ومن أبرزها تحول الإمبراطورية الرومانية إلى إمبراطورية مسيحية يوم اعتنق الإمبراطور قسطنطين الأول المسيحية التي قام بتحريفها بما يناسب هواه في مجمع نيقية عام 325م، وأمر بإعدام كل مواطن يكفر بقانون الإيمان الذي أقره. وكذلك نرى اليوم ما يحدث في البلدان العربية بعد توصل الإخوان المسلمين إلى سدّة الحكم، وخاصة في مصر، حيث أصبح انتقاد سياسة البرلمان أو الرئيس انتقاداً للدين، والهجوم عليهم هجوماً على الدين، ورفض قراراتهم رفضاً للدين، ومخالفتهم الرأي في محتوى مسودة دستورهم مخالفة للدين. وهكذا تصير المعارضة السياسية لمن يقول بأنه يحكم بشرع الله كفراً بالله وبالقرآن وبالإسلام، وهذا فعلاً ما حصل في تاريخ الخلافات الإسلامية.
ومن أبرز المشاكل في زواج الدولة السياسية من الدين هو أن النظام سيفرض على جميع رجال الدين ما يسمح لهم بمناقشته في الأماكن العامة والمعابد والكنائس والمساجد، وأي كتب مسموح نشرها، وماذا يحل وماذا يحرم من الإعلام. وهكذا تترعرع الأطفال جيلاً بعد جيل على فكرة أن الله هو الذي عين هؤلاء في مناصبهم، أو أنه على الأقل راضٍ عنهم وعمّا يصنعون، خاصة وأنهم يدعون إلى عبادته، ولا تكمل عبادته إلا عن طريق عبادتهم، لأنهم جعلوا أنفسهم ممثلين رسميين لله في الأرض. فالحكومة المدنية عندما تشرّع فإن شرعها يصبح قوانين، وأما الحكومة الدينية فإن تشريعاتها هي شرع الله، ومحاسبتهم هي كأن نحاسب الله!
ولكن لحسن الحظ فإن حبل النجاة من هذه السلطات الدينية المفبركة والمبتدعة موجود في الكتب السماوية ذاتها التي يحرم الأئمة دراستها أو تأويلها من دون الضوء الأخضر منهم، وهم لا يعطون الضوء الأخضر إلا لمن يوافقهم الرأي أصلاً، ويفعلون ذلك باسم الدين وبحجة صيانة الدين وحمايته من الرافضين. ولكن فعلاً أن هذه الكتب التي تركها فينا رسل الله وأنبياؤه والصالحون، عليهم الصلاة والسلام، هي ذات الآيات التي تنبهنا من خطر الأئمة وعلماء الدين، والتي تعلمنا بأن الهدى إلى الصراط المستقيم نجده في الآيات ذاتها وليس في الدعاة:
« قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ اللَّـهِ مَا لا يَنفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَىٰ أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّـهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّـهِ هُوَ الْهُدَىٰ وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71) » سورة الأنعام
هذا الصراط الذي يكون فيه كل الناس سواسية، ولا ملِك ولا إله علينا إلا الله.
« قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَـٰهِ النَّاسِ (3) ». سورة الناس
« قُلْ هُوَ اللَّـهُ أَحَدٌ (1) اللَّـهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4) ». سورة الإخلاص
« فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ (21) لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ (22) إلا مَن تَوَلَّىٰ وَكَفَر (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّـهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُم (26) ». سورة الغاشية
فالله يقول هنا بكل وضوح بأن السلطة الدينية بيده هو وحده، فهو من يحاكم المؤمن والكافر ويحاسبهم، وليس ذلك من أدوار النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف يصح لخليفته ما لم يحل له؟ كيف يحل لسلطان مسيحي أن يطارد ويعاقب ويحرق ويعدم الرافضين لاعتناق المسيحية حسب مذهبه ويفعل كل هذا باسم المسيح الذي لم يعط أمراً كهذا قط، وحتى أنه لم ينصب محله أي إنسان، بل علم أتباعه أن لا يدعو أحداً على الأرض « أبونا »؟ [الإنجيل عن متى، الإصحاح 23، الآية 9] والخليفة الوحيد الذي تحدث عنه المسيح قبل صعوده إلى السماء هو « المعزي » الذي يأتي من بعده ولا يتكلم إلا بما يوحى إليه من الله، ويؤمن ملايين المسيحيين بأن هذا المعزي هو الروح القدس [الإنجيل عن يوحنا، الإصحاح 16, الآيات 5-16].
« وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ۚ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلا بِإِذْنِ اللَّـهِ ۚ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (100) قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ۚ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (101) فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِهِمْ ۚ قُلْ فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ (102) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا ۚ كَذَٰلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ (103) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّـهِ وَلَـٰكِنْ أَعْبُدُ اللَّـهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ ۖ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105) وَلا تَدْعُ مِن دُونِ اللَّـهِ مَا لا يَنفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ ۖ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ (106) ». سورة يونس.
وفي هذه الآيات نرى مرة أخرى بأن شرع الله لا يقضي في أمره سوى الله وحده عزّ وجلّ، في يوم الدين. ويأمرنا الله بألا نشرك به (والشرك هنا لا تعني عبادة الأصنام فقط، بل عبادة أي شيء أو شخص سواه)، أي أن لا نشرك الأئمة والدعاة والقضاة والشرطة والمخابرات والملوك والرؤساء ولا حتى الأنبياء في عبادته. والعبادة لا تعني فقط السجود والركوع شكلياً، بل تعني الانصياع للأوامر والنواهي. فالله هو الذي يأمر وينهى ويحلل ويحرم، ولا يحق لأي إنسان أن يكره أي إنسان آخر على أي أمر أو نهي، حتى ولو كان هذا الأمر والنهي من الله تعالى! فإذا قام رجل علينا وقال بأنه يقيم شرع الله فكأنه يعلن لنا بأنه شريك الله في السلطة، ويصبح الانصياع له شركاً بالله.
« أَفَغَيْرَ اللَّـهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلا (114) ». سورة الأنعام.
فالدين كان دوماً وأبداً دين الروح بالروح، أي صلة العبد بخالقه، ولا يمكن للروح أن تتصل بخالقها عن طريق وسيط بشري، لأن هذه الصلة موجودة في داخلنا. فالآيات ذكرت بأنه يوم تقوم الساعة، لن يقبل من أحد أن يقول دفاعاً عن نفسه بأنه كان يتبع إماماً أو علاناً:
« وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّـهِ ۚ إِن يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ (116) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117) ». سورة الأنعام.
« وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّـهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّـهِ ۖ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّـهِ ۗ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّـهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّـهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا ۗ كَذَٰلِكَ يُرِيهِمُ اللَّـهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ ۖ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167) ». سورة البقرة.
« أولئك الذين يعتمدون على أنفسهم، أولئك هم الذين يصلون إلى أعلى القمم » … « كونوا مصابيح لأنفسكم، واستنتجوا خلاصكم بجهاد أنفسكم » … « ليس للبوذة دور سوى الإشارة إلى الصراط؛ استنتجوا خلاصكم بجهاد أنفسكم ». من أقوال بوذة [هستن سميث، ديانات العالم، ص 97؛ 121].
« (1) حينئذ خاطب يسوع الجموع وتلاميذه (2) قائلاً:على كرسي موسى يجلس علماء الشريعة والفريسيون. (3) فكل ما قالوا لكم أن تحفظوه فاحفظوه وافعلوه. ولكن لا تعملوا كما يعملون لأنهم يقولون ولا يفعلون. (4) فإنهم يحزمون أحمالاً ثقيلة عسرة الحمل ويضعونها على أكتاف الناس وهم لا يريدون حتى أن يحركوا إصبعاً. (5) وكل أعمالهم يعملونها لكي يراهم الناس. فيعرّضون عصائبهم ويعظمون أهداب ثيابهم. (6) ويحبّون المتكأ الأسمى في الولائم والمجالس الأعلى في المجامع (7) والتحيّات في الأسواق، وأن يدعوهم الناس ربّي ربّي. (8) أما أنتم فلا تدعوهم ربّي لأن ربّكم واحد وأنتم جميعاً أخوة (9) ولا تدعوا لكم أباً على الأرض لأن أباكم واحد، وهو الذي في السماء (10) ولا تدعوهم معلم لأن لكم معلم واحد وهو المسيح (11) وسيصبح أعظمكم قدراً عبداً لكم (12) لأن الذي يتعالى على الناس سوف يذلّ، والذي يتواضع بينهم سوف يعظّم (13) فالويل لكم أيها الفريسيّون وعلماء الدين، أيها المنافقون! تغلقون ملكوت الفردوس في وجوه الناس، فأنتم لن تدخلوا، وتمنعون غيركم من الدخول (14) الويل لكم أيها الفريسيّون وعلماء الدين، أيها المنافقون! تأكلون بيوت الأرامل وتطيلون في صلاتكم رياء للناس، أولئك سيعذبون أشد العذاب (15) الويل لكم أيها الفريسيّون وعلماء الدين، أيها المنافقون! تطوفون البر والبحر لتعثروا على من يؤامن بالدين، وعندما تجدون واحداً تجعلونه ابناً لجنهم أكثر منكم… » إنجيل المسيح عن متى، الإصحاح 23.
________________________________________
5 – خلاصة
اتبعوا الناس وسيضلونكم عن سبيل الله: الصراط المستقيم. اتبعوا الله الذي يسمع صلواتكم ويرى ما في قلوبكم من قبل أن تدعونه، وستهتدون إلى الصراط المستقيم. هكذا تقول آيات الكتاب.
فيسوع المسيح عليه السلام لم يوصي تلاميذه الحواريين بأن يؤسسوا ملة جديدة اسمها المسيحية، بل قال لهم بأن يعمموا بشارته (الإنجيل) إلى كل الناس. أما دين الأئمة المسيحي فهو من صنع التابعين. كذلك محمد عليه السلام جاء مصدقاً لما بين يديه من التوراة التي أنزلت على موسى والإنجيل الذي أنزل إلى عيسى (عليهم السلام). وقد أشار القرآن إلى التوراة الإنجيل بكلمة واحدة: الكتاب. كما وأن القرآن هو أيضاً الكتاب، وأتباع الكتب هذه جميعهم يدعون بأهل الكتاب، لأنهم كلهم مسلمون لنفس الإله الواحد الأحد. إذاً، فكلمة الإسلام ليست اسماً لدين منظم من أئمة، بل هو اسم الدين القيّم، الدين الحق الذي يؤمن أتباعه بإلهٍ واحد. فالرسل والأنبياء لم يختلفوا في ما قالوه وحياً من الله، بل أتباعهم هم الذين اختلفوا في أمرهم. وقد قالها بروسلي، الممثل والبطل الشهير في الملاكمة الصينية (الكونغ فو) والذي كان أيضاً فيلسوفاً طاوياً: « ضع أعظم المعلمين في غرفة واحدة وستجدهم يتفقون على كل شيء. ولكن ضع تلاميذهم وأتباعهم في غرفة واحدة، وستجدهم يختلفون في كل شيء. »
والمسيح لم يوجه خطابه لباباوات الكنائس والبطريركيات، بل للناس أجمعين. وكذلك محمد عليه السلام نطق الوحي القرآني بآيات تخاطب « يا أيها الناس » و »يا أيها الذين آمنوا » وليس « يا أيها الأئمة » أو « يا أيها العلماء ». وعندما نقرأ آيات الصلوات، مثل اهدنا الصراط المستقيم، ومثل اغفر لنا خطايانا، فالنون الجامعة هنا تعود على الناس قاطبة. فالله يغفر خطايا كل الناس ويهدي كل الناس إلى الصراط المستقيم. لأن الإنسان قد فُطر على الروحانية والتشوق إلى معرفة الله، والبحث عن الحقيقة هو جزء من نمونا الروحي لنقترب من الله ومن صراطه المستقيم، وهذا لا يتم من خلال تلقيم الأئمة والرهبان الذين يضلنا أكثرهم عن سبيل الله، كما ذكر في القرآن. وكلما قرأت الآيات المنزلة أكثر فأكثر، كلما زدت يقيناً من صحة هذا القول عقلاً وإحساساً ومبدأ.
تذكر دائماً بأن مصدر سلطة أئمة الدين هو جهل الناس، لذلك سمي عصر ما قبل الإسلام عند العرب بالجاهلية. وسلطة رجال الدين تأتي من وهم أنهم أقرب الناس إلى الله، وبأنهم يعرفون الله ومشيئته أكثر من باقي الناس، وبأنهم هم فقط من يفهم محتوى الكتب المنزلة وغير المنزلة. فقدم لنفسك خدمة العمر وأطلقها من قيود دين الأئمة الملوث بالخرص والفرقة والبدعة، وافتح عقلك وقلبك وروحكلتشعر بوجود الله مباشرة ومن دون وسطاء. اقرأ وعلم نفسك بنفسك، قاصداً الحق الذي فطرك الله عليه قبل أن تولد:
« فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّـهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّـهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا ۖ كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32) ». سورة الروم
« وَأَنَّ هَـٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153) ».سورة الأنعام
________________________________________

خاتمة
نظرة شاملة
إن تغلغل دين الأئمة في المجتمع أعمق مما يتصوّره البعض، إذ أصبح جزء من ثقافة وحضارة المجتمع. فقد اختلط دين الأئمة بالعادات والتقاليد حتى صار من الصعب التفريق بينهما. وغالب المشاكل الاجتماعية الدينية تظهر عندما تتحور الثقافة (بسبب عوامل بنيوية) وتتحجّر مواقف أئمة الدين المنظّم وترفض التغيير لأنهم حجّروا الدين في قوالب تأويلاتهم. فنأخذ على سبيل المثال كنيسة الكاثوليك في الفاتيكان وكيف تم التعامل مع وسائل منع الحمل. لقد عارض أئمة الكنسية بالإجماع جميع تلك الوسائل المعروفة بحجة أنها اعتداء على حدود الله، وكأنها محاولة للتدخل في مشيئة الله. ولكن لماذا لا نقول بأن العلم الذي أوصلنا إلى اختراع وسائل منع الحمل هذه هي أيضاً من مشيئة الله عز وجلّ؟
أو خذ مثالاً آخر: اجتياح الأزياء الغربية لبلاد المسلمين في القرن الماضي (كما اجتاحت الأزياء العربية كل بلدان أوروبا إبان العصر الذهبي الإسلامي قبل 1000 سنة). فنرى الرجال قد غيروا دشاديشهم وسراويلهم وعباءاتهم إلى بدلات وربطات عنق ومعاطف جلد وبناطيل جينز، كما واستبدلت النساء الثوب والشال إلى فساتين وتنانير ومعاطف وقبعات الخ. فكان الحال في البلدان الإسلامية التي تعاني من تغلغل سلطة أئمة الدين، كالسعودية أو اليمن مثلاً، أن ثار الأئمة عليها، وأجمعوا فيما بينهم بأن اللباس الغربي، وخاصة للنساء، هو اعتداء على حدود الله، وكأن الله عز وجل قد صمّم لنا أزياء صالحة لكل زمان ومكان، حاشاه. وكانت ردة فعل الأئمة بأن يعمموا ويسوّقوا الزي العربي السعودي على أنه الزي الإسلامي، واضطروا طبعاً إلى إيجاد الدليل الشرعي من خارج القرآن الكريم، ثم نسبوا الزي الذي أجمعوا عليه إلى شرع الله! ألم يستغربوا كيف أن النبي الكريم عليه الصلاة والسلام، حسب الأحاديث الضعيفة التي يؤمنون بها، كان قد أقر نفس اللباس الموجود في بلده؟ أليست صدفة غريبة أن يكون « شرع الله » في لباس محمد هو ذات اللباس الذي كان يلبسه أبا جهل وأبا لهب وغيرهم من المشركين؟ وبأنه الزي الأنسب للذي يسكن في الصحراء؟ ألم يقرؤوا قول الله تعالى في سورة الأعراف: « يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَىٰ ذَٰلِكَ خَيْرٌ ذَٰلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّـهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26) »؟
الواقع أنه في أغلب الحالات يحاول الأئمة من كل الأديان والطوائف أن يحافظوا على ثقافة متجمدة لا تقبل التأثر بأي عامل خارجي، إلا طبعاً ما يرون أنه ينفعهم ويزيد سلطانهم بين الناس، فيصدرون الفتاوي لتمرير العامل الخارجي عبر مصفاتهم لتصبح حلالاً. خذ شبكة الإنترنت على سبيل المثال، كيف عارضها أئمة المسلمين بشدة أول ما انتشر استخدامها في التسعينيات من القرن الماضي وجعلوها شيطاناً، ونشروا بين الناس نظرية مؤامرة بأن هدف هذا الاختراع هو تدمير الإسلام أو سلخ المسلمين عن دينهم (أي تدمير سلطتهم الوهمية على الناس). ولكن بعد أن تعلم هؤلاء الأئمة كيفية استغلال الإنترنت لنشر أفكارهم من خلال شبكات ممولة ومصممة من قبل السلطات، لم يعد الإنترنت شيطاناً يهدف إلى فصل الناس عن الدين.
كذلك نجد بأن الدول التي يكون دين الأئمة متنفّذاً فيها أكثر من غيرها تحظر على الناس تصفّح شبكات لا تتفق مع مبادئها، ويتم هذا الحظر باسم الدين والشريعة. لذلك علينا أن نستنتج من هذه الأمثلة بأن دين الأئمة لا يؤمن بحرية الاختيار بين الإيمان والكفر، وبأنه لو جاء يوم امتلك فيه الأئمة تكنولوجيا متقدمة من الرقائق التي تزرع في الأدمغة لتتحكم بأفكار الناس، سوف يجدون لها ألف مصدر تشريع مبتدع، كالإجماع والقياس، ليحللوا زرعها في الأطفال والكبار بحجة أنهم يحمون الناس من شر الوسواس الخناس! ولن يستحوا أن يحرفوا آيات الكتب المقدسة عن مواضعها لتمرير قانون زرع الرقائق.
وفي المقابل، يرد بعض مناصري دين الأئمة بأن المجتمع بلا دين منظم من هيئات علماء وفقهاء ومراجع سيؤدي إلى الفوضى الدينية وبالتالي إلى الفوضى الاجتماعية والسياسية، حيث لن يكون هناك سلطة تجيب الناس على استفساراتها الدينية ولن يعرفوا الحلال من الحرام ولا الرشد من الغيّ، إذ سيصبح لكل شخص الحرية المطلقة في تفسير دينه كما يشاء. سأعيد ذلك ثانية: يعتقد بعض مناصري دين الأئمة بأن المجتمع بلا دين منظم من هيئات علماء وفقهاء ومراجع سيؤدي إلى الفوضى الدينية وبالتالي إلى الفوضى الاجتماعية والسياسية، حيث لن يكون هناك سلطة تجيب الناس على استفساراتها الدينية ولن يعرفوا الحلال من الحرام ولا الرشد من الغيّ، إذ سيصبح لكل شخص الحرية المطلقة في تفسير دينه كما يشاء! فعلاً. يا له من يوم مظلم؛ ذلك اليوم الذي يتواضع فيه أئمة الدين ليعودوا إلى خندق المساواة مع باقي البشر ويتبعون ما أنزل الله في كتابه عندما قال لا إكراه في الدين، قد تبين الرشد من الغيّ. أجل، سيكون ذلك اليوم الذي تسقط فيه السلطة من أيدي الأئمة يوماً مرعباً في عيونهم، يوم يعطى كل فرد الحرية المطلقة في قيادة حياته بالفطرة التي فطره الله بها، وليجازى شراً مقابل كل مثقال ذرة شرّاً، ويجازى خيراً مقابل كل مثقال ذرة خيراً؛ يوم يحاسب المرء على ما كسبت يداه، في يوم الدين الذي قال الله تعالى أنه مالكه وحده لا سواه.
ولكن كما نوهنا آنفاً، دين الأئمة هذا قد اختلط وذاب في ثقافة الناس بحيث أن أي محاولة لإبطاله ستبدو وكأنها هجوماً على الثقافة والتقاليد والعادات. والدليل على ذلك ما نراه من معتقدات مخالفة للدين، مثل القتل من أجل شرف العائلة، ومثل إعلان الحرب على بلد آمن مسالم غير مذنب في حق البلد المهاجم، ومثل عبادة ملوك وزعماء غير منتخبين واعتبار أن طاعة هؤلاء هي ذاتها طاعة الله (أي أنهم أشركوا بالله)، ومع ذلك لا نرى أدنى معارضة من معظم مناصري دين الأئمة المنظم على هذه الأعمال الفاحشة والجرائم التي صارت حلالاً في الدين، بل نرى جُلّ تركيزهم في تثبيت معتقداتهم ليس من منطلق المنطق والعقلانية، بل من منطلق التقليد الأعمى للسلف الصالح، ولو أن السلف الصالح كانوا معنا اليوم لخالفوا أنفسهم وغيروا آراءهم لكي يتأقلموا مع الحاضر.
وهكذا نرى كيف قامت الحروب الصليبية في القرن الثاني عشر الميلادي في فلسطين وما حولها، ومصادرة الأراضي وتقتيل الناس والأبرياء ، وكانت هذه الحروب الصليبية آنذاك مباركة ومؤيدة تأييداً تاماً من قِبل الكنسية في الفاتيكان، كما ردد البابا « قتل الكفار ليس خطيئة، بل الطريق إلى الجنة ». ومن المشاكل المعاصرة كيف تتعامل الكنائس الغربية مع ضحايا الكوراث والحروب حين يعلنون بأن المعونات والأغذية لن تعطى إلا إذا حضروا خطبة الكنيسة وصلوا مع المصلين. أليس هذا ما علمنا إياه المسيح عليه السلام؟ ألم تسمعوا آيات سورة الماعون التي قالت: فويلٌ للذين لا يمنعون الماعون لغير المصلين؟ ألم يقرأ أولئك المبشّرين قول المسيح « (46) لو أحببت الذين يحبونك فقط، ما الأجر الذي تتوقعه؟ ألا يحب جناة الضرائب [الروم] بعضهم البعض كذلك؟ (47) ولو ألقيت السلام على أبناء أمتك فقط، فماذا صنعت أكثر من غيرك؟ ألا يلقي الوثنيون السلام على بعضهم البعض أيضاً؟ …. (45) إن الله يجعل نور شمسه يسطع على الخيّر والشرير، وينزل المطر على التقي وغير التقي…. (48) فكن كاملاً إذاً، مثل أبيك الذي في السماء ». (إنجيل المسيح عن متى، الإصحاح الخامس).
عجباً كيف يقرأ المسلمون الفاتحة عدة مرات في صلواتهم حين يتلون « إياك نعبد وإياك نستعين. اهدنا الصراط المستقيم » ثم بعد انتهاء الصلاة يتوجهون إلى الإمام والمفتي والفقيه في المساجد والإذاعة والتلفزيون والانترنت ليستعينوا بهم كي يهتدوا بهداهم! ألا يرون التناقض الرهيب في قولهم بأنهم لن يستعينوا على الهدى إلا بالله، ثم يستعينون بغير الله؟ وعجباً من المسيحيين الذين يقولون بأنهم يؤمنون بالمسيح ويتبعون إنجيله، مع أنه قال لهم « لا تصلي في المعابد والطرقات مراءاة للناس » بل « ادخل إلى غرفتك وأغلق الباب عليك وصلي إلى أبيك الذي لا تراه الأعين. فهو يعلم ما تفعل في السرّ ويجازيك عليه. وعندما تصلي، لا تردد الكلمات مكاء وتصدية كما يفعل الوثنيون، لأنهم يعتقدون أن الإكثار من البلبلة ستجعل صلواتهم أكثر سمعاً. لا تكن مثلهم، فالله يعلم ما تريد من قبل أن تدعوه. صلي إذاً كالتالي: أبانا الذي في السماء، ليتقدس اسمك… ». (إنجيل المسيح عن متى، الإصحاح السادس، الآيات 5 – 9).
كلما ظن بشرٌ أنه كبيرنا، فنقول له: الله أكبر. ذلك هو الدين القيّم، نعرفه من كلمات البوذة حين قال: « كونوا مصابيحاً لأنفسكم، واعملوا لخلاصكم… » وكلمات محمد عليه الصلاة والسلام حين قال: « كلكم راعٍ، وكلكم مسؤول عن رعيته »، وكلمات يسوع المسيح عليه الصلاة والسلام حين قال: « لا تنادوا أحداً « ربي » لأنه ما لكم إلا ربٌّ واحد، وأنتم كلكم إخوة. ولا تنادوا أحداً على الأرض « أبونا »، لأنه ما لكم سوى أبٌ واحد، وهو الأب الذي في السماء ».
___________________________________
* عُدَي سعد بَدّار، فلسطيني الأصل، من قضاء نابلس، باحث علمي ومدرس اقتصاد ولغات.

2 تعليقات

  1. يقول تعالى :
    ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين
    وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون

  2. الحمد لله وحده و الصلاة و السلام على أنبياءه
    أحيي الجهد العميق للكاتب بمقارنته المحايدة لكل التوجهات التي أوردها منذ إبراهيم إلى موسى و عيسى ومحمد بوصفهم أنبياء و رسل من خالق الكون إلى مخلوقاته ثم بوذة بوصفه فيلسوف ناصح لقومه بلسانهم …
    الثابت بما جاء به المقال أن للكون خالق واحد و أنه الأحق بالتشريع و تنظيم الحياة بين مخلوقاته و أنه الأحق بالطاعة المطلقة دون قيد أو شرط و أن الأنبياء و المصلح جاؤوا يؤكدون أقوال بعضهم رغم تباعد الحقب و اختلاف الألسنة و كون الاختلاف إنما يرد لدى الـخَلَفِ الخاص في الدين و ليس الأنبياء أو المعلمين .
    أما بذاكرتي أجد أن الواقع التاريخي يؤكد أن ثمت أناس أرادوا إطبافق سللطانهم على غيرهم كل أفراد المجتمع فما كان من خططهم انهم يُأنسون المصغي لهم أنهم على بينة من دينخه و أنهم يعملون في اتجاه دين الخالق و أنهم يحا فظون عليه للأجيال المقبلة و ينصبون أنفسهم أنهم الأقدر و الأئمن على الدين و أن حكمهم لا يشوبه أي شك أو ريبة في مصداقية . و لتغطية لهفهم على السلطة فأنهم يسندون على إحداث شهادات بعض التابعين الذين لا يعون حجم جرمهم في انخراطهم في الته و تزكية القوة الحاكمة و الانصياع لكل رغباتها بذكر أن التجاوز عن العيوب مناطه مصالح أقوى كالحفاظ على الأنفس في أقصى الحالات .

    والسؤال الذي يُطرح هو ما سر تهافت الحكام الساسة على السلطة ؟ رغم أنه نظرية الحكم في فهمها العامي هو تحمل أعباء حل المعضلات و المشكات التي يتخبط فيها المجتمع … ؛ فرغم ثقل هذه الأمانة إلاّ أننا نجد التسارع لدرجة الاقتتال من أجل التمكن من منصب الحكم و الزعامة … فلماذا ؟ !.
    في حين لو كان يعلمون أنهم لن يمكنوا من سلطة على الاقتصاد على الأقل في شكل المصغر فإنهم دونه يقفون بل يعرضون الحكم على غيرهم .. و هذا ليس من الأمور الغيبية للإدراك فيكفي مقارنة ازدواجة الخطاب و التناقض بين موقفهم حين تموقعهم في السلطة و تموقعهم خارجها إن مبادئهم تتغير .
    فلو كانونا حقا يبحثون على حقا لتفاهموا فيما بينهم دون الحصول على هزيمة بعضهم بعضا.
    ثم ما كانون ليتنافسوا لو علموا أن سلطتهم لن تمكنهم من نفوذ اقتصادي عميق يمكنهم و يكبح جباح غيرهم للسلطة بل و لا يتقدون بإصلاح إلى ما راق مصالحهم المادية المحظة .
    لذلك أبرح بالقول أنه دين الساسة الذين لم تكن لهم أبدا قيم بشرية تزكي الحروب بل تسهر على تفعيل آثارها حتى وقت السلم .
    إنه دين الساسة لما يحورون إنقلابهم على شرع خالق الكون إلى تمكينهم من الوزن المطففين

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا