مفهومان أساسيان : الشهادة والشريعة

يجب أن نبدأ إذن من البداية. هناك مفهومان غالبا ما يستعملهما المسلمون والمستشرقون وعلماء الاجتماع والصحفيون هما الشهادة والشريعة، وهما مفهومان يملكان معان واضحة. لكن يتم استعمالهما دون أخذ بعين الاعتبار التوضيحات التي يلزمنا الإحاطة بها، ودون أي احتراز منهجي، رغم أن هذين المفهومين يحتلان أهمية كبيرة لكل من يرغب في استيعاب جوهر الإسلام في مبادئه وفي آليات ملاءمته مع السياقين الزماني والمكاني. لكن إذا قمنا بتحليل الخطابات الحالية، سنجد أن المعنى الذي يلصقونه غالبا بهذين المفهومين له دلالة اختزالية وجافة، كما أنه لا يعكس حقيقة المعاني التي جاء بها الوحي الإلهي والذي جسده النموذج النبوي. فالشهادة في هذه الحالة لا تعدو أن تكون  » الإقرار برسالة الإسلام » يعني أن نشهد ألا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، فكل من ينطق بها يصبح مسلما. ورغم أنها ركن من أركان الإسلام الخمسة، فقد انتهينا بإفراغها من محتواها كما نفعل مع باقي العبادات خصوصا ما يتعلق بالفقه، حيث أصبحنا نتعلق فقط بالشكليات وتجاهلنا الجوهر. والأمر ينطبق على الشريعة، التي غالبا ما يتم تقديمها على كونها شرعا إلهيا، أو قانونا جنائيا لاإنسانيا لا يأخذ بعين الاعتبار السياق الزمني. إنها تعاريف اختزالية لا تعكس الغنى الذي تتمتع به هذه المفاهيم الأساسية.

الشهادة (Témoignage)

إن شهادة ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله هي التجسيد الفعلي للانتماء إلى دين الإسلام، كما أن نطق الشهادة يعني أن المسلم يشهد ويقر بوجود الله تعالى الذي تخضع له جميع المخلوقات. ويقر المسلم كذلك بتاريخ النبوات والرسالات السماوية التي عرفتها البشرية على مر التاريخ، حتى آخر رسالة سماوية جاء بها النبي محمد عليه الصلاة والسلام. إن هذه الشهادة تعكس تصورا خاصا عن العالم، والحياة، والموت، وغايات الوجود. فهي تجيبنا على معنى  » أن نكون مسلمين » شكلا ومضمونا، يعني كيف تكون علاقتنا بالله تعالى، وكيف نتمكن من صياغة فهم خاص لأحداث التاريخ، حتى نستوعب معنى الحياة. إذن هذه بعض معاني الشهادة، وليست كلها.

بالإضافة إلى ما سبق، فالشهادة لها بعدان أساسيان، لا يتم الحديث عنهما غالبا للأسف، في حين أنهما مكملان لما ذكرناه آنفا. يتجلى البعد الأول للشهادة في إخلاص المؤمن للميثاق الأصلي الذي يربطه بخالقه سبحانه وتعالى، والذي يتجلى في مدى انسجامه مع روحه التي تتطلع بشكل فطري إلى الرجوع إلى الأصل، يعني الرجوع إلى الخالق. ويتجلى البعد الثاني في كون الشهادة مسؤولية ثقيلة أمام الناس، فالنطق بالشهادة يعني حملك لرسالة، ويستوجب الأمر منك أن تكون نموذجا يقتدى به، لإرشاد الناس وتوجيهم وتذكيرهم دون إكراه. إذن نرى جليا أن مفهوم الشهادة غني بالمعاني ولا يمكن تجاهله. وتعكس الشهادة باختصار ما يجب أن يقوم به المسلم فيما يخص صلته بخالقه، من خلال الإقرار بوحدانيته، والإخلاص لرسالته، وتعكس تصورا خاصا للحياة والكون، كما تشير إلى مسؤولية المسلم أمام الناس.

الشريعة : كيف يجب أن نكون؟

يلزمنا الآن توضيح كيف يمكن أن نعيش معاني الشريعة بكل انفتاح في حياتنا اليومية أو داخل مجتمعاتنا. ما هو السبيل الذي يتيح لنا البقاء أوفياء لمرجعيتنا أخذا بعين الاعتبار تقلبات الحياة والظروف والثقافات؟ هذا هو المعنى الأول والأساسي لمفهوم الشريعة الذي يعبر عن معنى الطريق، أو السبيل إلى الأصل كما رأينا سابقا. إذا كانت الشهادة تعطينا فكرة عن ماذا يعني أن أكون مسلما، فالشريعة تبين لنا كيف نكون مسلمين. فعندما ينطق المسلم بالشهادة عن وعي واقتناع، فإن أعماله تصبح منذ ذلك الحين منسجمة مع شريعة الإسلام. فهي مثلا تعلمنا آداب المأكل، والمشرب، والعمل، وبناء أسرة، إلخ…، وتعلمنا كيف يجب أن تكون حياة المسلم بشكل عام. لكن يبقى ذلك غير كاف، فهي متعددة الأبعاد، وتدعو المسلم إلى إعطاء الأهمية للجانب الروحي وتعميق صلته بربه، كما تدعوه إلى ترتيب شؤونه الخاصة وشؤون أسرته، بالإضافة إلى تنظيم حقله الاجتماعي. فالشريعة تدعو المسلم إلى الإخلاص لها عن وعي واقتناع، مع القيام بمجهود فكري من أجل استيعابها وفهمها انطلاقا من السياق العام، وأخذ المبادرة، والاحتكام لها على المستوى الشخصي والاجتماعي.

تعتبر الشريعة بالنسبة للمسلم المؤمن مفهوما كونيا. فهي ترشده دون أن تحرمه من التفكير الذي يأخذ بعين الاعتبار المحيط الذي يعيش فيه، والثقافات السائدة، والسياقين الزماني والمكاني. يبدو جليا أنه لا يمكن تجسيد الشريعة في الواقع دون إعمال الفكر، لأنه لا يمكن أن يكون إخلاص صادق دون استيعاب عميق للتطورات التي يعرفها المحيط الذي نعيش فيه. لقد تم اختزال الشريعة في غالب الأحيان في بعض التعاريف التي أطلقها العلماء والفقهاء حسب مجال التخصص، مما جعلنا نصدق أنه ليس هناك إسلام واحد، بل هناك إسلام الظاهر وإسلام الباطن، والأمر ليس كذلك، فالإسلام واحد، والشريعة واحدة تشمل جميع الأوجه فهي تشمل العقل والقلب، والروحانية والفرائض، والخصوصية والمجتمع، على حد سواء. فهي لا تفرق بين هذه الأبعاد، بل تكشف لنا عن أسس انسجامها مع بعضها البعض.

طارق رمضان، من كتاب أضواء على قضايا الإسلام والمسلمين : تأملات في الإنسان وقضايا الإصلاح والحرب والغرب
ترجمة : صلاح شياظمي

3 تعليقات

  1. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    استاذي، قرأت هذه المقالة و برزت في ذهني تسائلات عما تتعلق بهذه القضية. شرحت فيها ‘النظرية’ عن الشريعة بكونها تعاليم الحياة و مفهوما كونيا. وكذلك قلت ان الشريعة هي واحدة. لكن كيف تكون الشريعة واحدة لكن تطبيقها مختلفة.
    تذكرت درسي في مدرسة اعدادية مع استاذ التربية المدنية باندونيسيا. سالني الاستاذ انذاك، هل يجب علينا تطبيق الشريعة (من الحدود والمعاملات) في حياتنا المجتمع والمدني من ناحية الحكومة؟ وتجادلنا فيه.. لان الاستاذ لايوافق مع رأيي بان السلطة او الحكومة لا بد ان نطبق الشريعة، كيف لا وهي الوحيدة التي لديها امكانية في تطبيقها.
    لكن عندما شهدنا الحوادث في شرق الاوسط من داعش، تحير فكري في تطبيقها، هل يكفي بجعل الشريعة مثالا في صناعة القنون الوضعي ام كيف؟ ايكفي بأخذ المقصد من بين الحدود الشريعة؟ خاصة بما يتعلق بحدود القصاص وقطع اليدين للسارق مثلا. وشكرا
    والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

  2. Merci pour cet article qui nous rappelle des principes faciles mais des fois oubliés et qui corrige des mauvaises interpretations de l’Islam
    Cette lecture je l’ai senti comme une breeze du matin.
    Merci Mr
    Ramadan

Répondre à Naima إلغاء الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا