الكونية

طارق رمضان

تخضع الشمس والرياح والجبال لنظام الكون، وتسبح بحمد الخالق تعالى. كل على طريقته، قال تعالى :  » وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ ». وقال تعالى : » وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ». إذن من قلب هذا الكون، وانطلاقا من معنى وجوده، ومن التناغم الذي يميز نظامه، تنحدر هذه الشريعة بقيمها وغاياتها، وحدودها كذلك، إذن الشريعة لها معنى وآداب وقيم كونية بطبيعة الحال.

إن الوحي الإلهي الذي تعرضه الآيات الكونية يعطي للإنسان كونية معناه،كما أن الله تعالى خالق الأكوان يأمرنا باحترام التنوع. إن الله تعالى المطلق والمتعالي على البشر، يذكرهم بحدودهم البشرية وبنسبية الأشياء. لقد شاء الخالق سبحانه وتعالى في رسالته الكونية أن نكون مختلفين، ورسم لنا منهاج السلام في التوازن، والعدالة في الانسجام. يتدافع الناس في اختلافهم ضد الاستمالة الدكتاتورية القمعية والمدمرة، قال تعالى :  » « وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْض. »

لو كانت هناك قوة واحدة، أو حضارة واحدة، تتحكم في العالم حصريا لفسدت الأرض واندثر العالم. إن الحكم المطلق يؤدي إلى هلاك الإنسان وانهيار العالم…تبقى هذه السلطة إذن في غير متناول البشر، كما أنها تفوق القدرات البشرية، لأن القوة لا يمكن أن تستمر إلا بوجود القوى المضادة، ومقاومة القوى الأخرى الموجودة، والوعي بقدراتها المحدودة. هذه أول قيمة كونية تفرض علينا الوعي بنسبية الأمور،وهذه هي الرسالة الأساسية للإسلام الراسخة في قلب كل إنسان، والتي تدعونا جميعا إلى السير وفق منهاج كوني مع مراعاة منهاج الآخرين .قال تعالى :  » سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ « .

إذن هذا هو معنى الوحي الإلهي، حيث أن الفطرة النابعة من النفخة الإلهية تتيح لنا الولوج إلى المنهج الكوني الذي نزل به الوحي. فالفطرة هي طريق الشريعة، والطريق نحو الكونية كذلك. لو كنا نحسن التعبير عن هذه الأمور، لكان تعبيرنا عن الأبعاد الأساسية للإسلام أبلغ. إن الإسلام منهاج يقوم على الفطرة، ولا يتجاهل أي مكون من مكونات الإنسان، من عقل وقلب ومشاعر. وإذا لم يبتعد الإنسان عن المصدر وعن هذه الشرارة الإلهية فإنه سيعيش في النور وفي تناغم مع الذات، كما أن ملكاته ستكون مدعوة إلى السير وفق هذا المنهاج التي ستؤدي فرديا وجماعيا إلى المنبع. الشريعة إذن هي هذا المنهاج الذي يؤدي إلى المنبع، والتي تتطلب إرادة قلبية وروحانية عالية، كما تتطلب التفكير التحليلي والانفتاح الحقيقي إحساسا وجسدا… إن الشريعة تحيلنا إلى الجوهر والأخلاق، يعني تحيلنا إلى كونية الأخلاق . لقد كان هذا الأمر يشكل حدسا بالنسبة لمجموعة من العلماء من بينهم أبو حنيفة والشافعي والغزالي والشاطبي وحتى بعض علماء التصوف، من أمثال ابن عطاء الله السكندري، وبعض فلاسفة  المسلمين، كالفارابي الذي تطرق إلى مفهوم علم الكلام الطبيعيّ، (Théologie naturelle)والذين حاولوا تصنيف غايات الفقه الإسلامي حسب بعض المبادئ الأساسية .بالنسبة للمسلمين القاطنين في الغرب، فالأمر لا يتعلق بالذوبان في هذه المجتمعات، أو بإضفاء صبغة النسبية على نموذجهم في إطار الكونية التي تميز الآخرين…إذن ما يمكن أن يقدمه المسلمون من إسهام مهم للغاية، يتجلى في مدى قدرتهم على التعبير عن هذا المنهاج الآخر القائم على الفطرة، والذي يدعو كل فرد إلى البحث عن تلك الشرارة القابعة في أعماق قلوبنا. إذن هذه النفخة الإلهية هي التي تعبر بشكل أفضل عن الطريق التي تؤدي بنا إلى المنبع، وهي الشريعة، بجميع أبعادها الإنسانية والشمولية والمتكاملة. هكذا يمكن للمسلمين في الغرب أن يؤسسوا لمفهوم جديد يعطي معنى للإنسان ولحياته ولقيمه ولغايته . يمكن أن نلاحظ تقاربا كبيرا لهذا المنهاج مع العقلانية السائدة، لكن هذا المنهاج يعتبر كذلك تذكيرا ووعيا بضرورة مراعاة بعض الحدود وتحمل المسؤولية وهو مطلب لا مفر منه.

الإسلام كرسالة كونية في الغرب هو كذلك تعبير عن الغنى وعن تعددية أصيلة. من واجب المسلمين إذن أن يحسنوا التحاور على قدم المساواة مع الآخرين دون عُقَد، ودون الشعور بكونهم أقلية أو غرباء، من أجل التعبير من خلال وجودهم عن شهادتهم لهذه الرسالة القائمة على الكرامة والمطالبة بالعدالة، باسم الأخوة الإنسانية.

2 تعليقات

  1. لقد خلقنا الله عز وجل وقد اودع كينونة و فطرة الانسان مقومات تجعله يحيا مع الكون فى انسجام تام دون اى صراع تصادمى هذا اذا استخدم ادوات ومبادئ الشريعة التى رتبها لنا القران والسنه ترتيب تصاعدي…ليرقى بروح وفكر الكائن البشرى فيصل به إلى مفهوم العبودية وكيفية الاستقاء للروح والجسد.فى ان واحد مع الحياة وبداخلها. …فيجد نفسه في سلام داخلى من نفسه والكون من حوله..????

  2. بارك الله فيك أخي طارق لتحليلك للإسلام بكونه منهاج يقوم على الفطرة.

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا