واقع علم الكلام ودوره المنشود بقلم الدكتور علي محمود العمري

من الخطأ الاعتقاد بأن نظرية المعرفة بالأسس والضوابط التي وضعها الغرب نظرية كونية تتعالى عن الزمان والمكان، وإن كان العديد ممن يُصنف بكونه « مفكراً » في عالمنا العربي والإسلامي يحاولون منذ أكثر من قرن من الزمان الترويج لكونية المعرفة الغربية، إلا أن الغرب نفسه لا يقر بذلك؛ بدليل الخلاف الكبير الذي يصل إلى حد التناقض بين فلاسفتهم ومفكريهم، فهم منقسمون مابين حسي ونقدي وعقلي ومنفعي وروحي وغيرها من المدارس.

وإذا كان هذا الخلاف في الغرب يعد محموداً ووسيلة إلى إثراء الفكر الغربي وتقدمه إلا أنه يعد تخلفاً ورجعية بالنسبة لدعاة التغريب في عالمنا العربي الذين ما فتئوا ينعتون من يحاول بيان نظرية المعرفة الإسلامية بأنه يريد جرَّ الأمة إلى عصور الجهل والظلام، وكأن أمتنا اليوم تقود العالم!

الشاهد الذي أعنيه هنا أن بعض أركان نظرية المعرفة قد تكون كونية، كإمكان المعرفة ووسائلها، ولكن هذا لا يمنع أن يكون لتجمع إنساني مخصوص نظرية معرفة متميزة له. وفي تاريخنا الإسلامي يمكن اعتبار علم الكلام هو الذي كان ولا زال يمثل نظرية المعرفة الإسلامية. وإذا كان البعض ينفر من مصطلح « علم الكلام » لأنه ارتبط في مرحلة زمنية بمسألة كثر فيها الخلاف – وهي مسألة خلق القرآن – إلا أنهم يتناسون أن علم الكلام هو عينه يسمى بعلم العقيدة، وعلم التوحيد، وعلم أصول الدين، فلا مشاحة إذن في الاصطلاح.

وأول ما يتوقف عنده الناقد هو التعريف الذي وضعه المتكلمون لعلم الكلام، فقد عرفه أغلبهم بأنه: « علم يقتدر به إثبات العقائد الدينية من الأدلة اليقينية، وذلك من خلال إيراد الحجج ودفع الشبه ».

وحقيقةً إن كل كلمة في هذا التعريف بحاجة إلى ورقات توضح مناسبتها، ولكن سأكتفي في هذا المقام بالتعليق على أول التعريف وآخره.

فالعلماء يقررون بأن العقيدة علم، وكونها علماً يعني أنه لابد من تعلمها، فلا يتحصل عليها المرء بمجرد جلوسه في المسجد للصلاة، أو قراءة للقرآن بدون فهم، وهذا هو الحاصل للأسف في العقود الماضية؛ حيث قامت إحدى الجماعات الإسلامية مدعومة بدولة نفطية عظمى باكتساح وسائل الإعلام المختلفة في العالم العربي، وتمكنت من ترويج أيديولوجيتها الدخيلة على الفكر الإسلامي والتي تكفر الآخر لأدنى شبهة، فنشروا الكتيبات والمطويات، التي -بالرغم من كثرتها- تتحد كلها في تبديع المخالف وتفسيقه، حتى أصبح الفتى الغِر يقرأ المطوية من هذه – والتي لا يكاد يخلو منها مسجد في الأردن- فيحكم بعد قراءتها بكفر إمام شهد له القاصي والداني قديماً وحديثاً بالإمامة في الدين، وهكذا أصبحت العقيدة بسبب هؤلاء لا تعدو عن كونها سماع شريط أو قراءة كتيب، وغفلوا عن كونها علماً له أصول وضوابط ينبغي مراعاتها.

إن علم الكلام –كنظرية معرفة إسلامية- يعيد الاعتبار لطلب العلم عموماً وأشرفه خصوصاً، وهو التوحيد، ويدلنا على أن إثبات المعتقد لا يتم إلا بالعلم والسعي لتحصيله.

وفي آخر التعريف الذي أوردناه ذكر الأئمة أن من وظيفة علم الكلام « دفع الشبه »، وكما هو معلوم فإن الشبه التي تثار حول الإسلام تختلف باختلاف الزمان والمكان، ولذلك كان على علماء علم الكلام التصدي لها قديماً وحديثاً، فهو علم حي يسير مع التاريخ لا على هامشه، وفي هذا يقول الدكتور عبد المجيد النجار: « الغاية الدفاعية استلزمت أن يكون الفكر الكلامي مترصداً لما يفرزه الواقع الثقافي مما فيه مجانبة للعقيدة الإسلامية ».

واقع علم الكلام

أصبح علم الكلام الآن في الأعم الأغلب محصوراً على الأوساط الأكاديمية، قلما نسمع عنه خارج أسوار الجامعة، ثم إذا نظرنا إلى حاله داخل الجامعات أنفسها وجدناه لا يمثل أكثر من مساق يدرسه الطالب ليؤهله إلى مساق آخر، وحتى من يدرِّسه قلما تجد فيهم من فَهِم بواطنه ومراميه ودوره الأساسي في نهضة الأمة، وإذا أردنا أن نبحث في أسباب تهميش علم الكلام في حياة المسلمين اليوم نجد أنفسنا بإزاء مجموعة من الأسباب منها ما ذكرناه سابقاً من الدعاية السلبية ضده من بعض الفرق الإسلامية، حتى عدّوا مجرد دراسته تهمة ينبغي أن يستتاب منها العبد. ومنها أيضاً قلة المتخصصين الحقيقيين القادرين على الاضطلاع بمهمة علم الكلام الأساسية وهي تثبيت العقيدة في نفوس المسلمين، والرد على شبهات المبطلين.

ومن أهم العوائق التي تحول دون تفعيل دور علم الكلام في الأمة هو وجود بعض الأحزاب الإسلامية التي تتسم بالغائية بالتفكير، وجعل الكم هو الهدف الأبرز لها، وفي سبيل ذلك تحاول الابتعاد عن كل ما من شأنه أن يحدث خلافاً بين المنتسبين لها من الأيديولوجيات المختلفة؛ فهذه الأحزاب غالباً ما تضم أعضاءً من مدارس مختلفة في الفكر الإسلامي كالأشاعرة والسلفية والصوفية وغيرهم، وتظن أنها بدعوتها منتسبيها إلى دراسة علم الكلام سيثير عليها أتباعها من السلفية الذين يرون هذا العلم « بدعة ».

التجديد في علم الكلام

إن طرح موضوع تجديد علم الكلام لا يعد من قبيل الترف الفكري، بل هو حاجة ماسة في عصرنا الحاضر، ولقد طرح هذا الموضوع بكثرة، ولكن في الغالب تكون هذه الدعوى معناها طرح مباحث علم الكلام القديمة واستبدالها بمباحث جديدة بالكلية، وهذا لا شك سيفرغ هذا العلم من مضمونه.

إن التجديد المطلوب هو إضافة بعض المواضيع الملحة على الساحة وإخضاعها للقواعد النقدية لعلم الكلام، فمن هذا مثلاً أنه لا بد من أن يبحث علماء الكلام الآن في مواضيع الحداثة، وهل يمكن التوفيق بين الإسلام والهرمينوطيقا أو التاريخانية مثلاً، وما هو موقف علم الكلام من الدعوة إلى وحدة الأديان التي ينظر لها بعض فلاسفة الغرب والشرق على السواء. كذلك وفي خضم الثورات العربية على علم الكلام أن يبين لنا عن رأيه في طبيعة الدولة المنشودة، وهل فعلاً يمكن التوفيق بين الدولة الإسلامية والدولة المدنية، إن مهمة علم الفقه هو وضع القوانين العامة التي من شأنها أن تدير الدولة، وهو ما يسمى في علم القانون بالقانون العام، أما مهمة التنظير لطبيعة الدولة، ومصدر التشريع فيها وهل هي دولة ديمقراطية أو شورية فهي من اختصاص علم الكلام.

يروى أن إمبراطور الصين قديماً أرسل إلى الخليفة العباسي هارون الرشيد يطلب منه أن يرسل لهم عالماً في الدين الإسلامي ليناظرهم في دينهم، فأرسل إليهم هارون الرشيد أحد المحدِّثين – الذين مهمتهم حفظ ورواية الحديث النبوي- وبعد فترة من الزمن رجع هذا المحدث إلى هارون الرشيد ومعه رسالة من إمبراطور الصين يقول له فيها: طلبنا منك أن ترسل لنا من يناظرنا لا من يَعِظنا.

هذا للأسف حالنا الآن، فأغلب المتحدثين باسم الدين نجدهم من الوعاظ، ومع هذا يتكلمون في السياسة والاقتصاد بل وفي الرياضة، وما هذا إلا عندما غُيب علم الكلام عن واقع الأمة.

3 تعليقات

  1. مادامت البرنامج السياسي « عولمة نظريات الغرب  » فإن إلزامية وضعها تحت المجهر لا يسوغ أن يغيب . ذلك لو افترض اعتباطا أنه يصلح لمجتمع ما حرفبا و كاملا فإنه متى تظهر عيوبه مع مجتمع آخر فرض عليه لا يمكن التراجع عليه لأنه يشكل إذ ذاك وحدة ظمن قواعد أخرى وعليه تكون عولمته نظرية باطلة .
    و الحال أن النظام الأمريكي بكل ما ينخ يه من ادعاءات بصلاحيته فإنه لم يصلح نفسه ذاته و لم يشفى البت كل أمراض مجتمعه حيث رواده و صناعه بل صنع الهوة بالحروب و زر ع الرعب في كوكب الأرض كل ذلك منأجل تخريب كوكب الأرض.

  2. الحمد لله وحده و الصلاة و السلام على أنبياء و رسله
    لعل « علم الكلام » مناطه الابتعاد من الشبة و التحقق من اليقين و هذا في تعبير الحديث هو ما يسمى بالتحليل و البرهنة و الاستدلال …
    و كون الألفاظ تعني نفس القصد و لكن مع تراكم الآجيال و اختلاف الآلسن أصبحت بعض الكلمات رائجٌ النطق بها و في المقابل كلمات قلّ أو ندر استعمالها و السبب في ذلك هو ربما من أهل علم الكلام أنفسهم ؛ إذ لم يستعملوا كل ألفاظ المعاجم و قصدهم هو تبسيط النص من أجل أن يكون متناولا لدى كل قارئ و النتيجة المتاركة تفرز قرّاء ذووا كمٍّ لغوي محدود فكلما ظهرت كلمة في الألسن الأخرى تجده يحافظ عليها و لايحاول البحث عن ترجمتها الحقيقية .
    إن إفرازات القصور اللغوي لن يفيد قطعا سواء عملية التلقى و لا الإلقاء و لا البحث لسبب جوهري يكمن أن إنتاج الذكاء يستند على تجميع المعلومات فكيف يمكن تجميع المعلومة وهي أصلا غير مكتوبة في الذاكرة إذن فالعقل يكون أمام معظلة نقص المعلومة و عليه لا يمكنه الفهم السريع و لا يمكنه الاستيعاب فمابالنا باستعمال الذكاء. ?! وحسبنا القاعدة فاقد الشيء لا يعطيه .
    لذا نجد أن نهج التريوي الذي يعتمد على تحيظ القرآن الكريم هو النهج الأقوم و الأنفع و الأقل تكلفة ؛ لأن عملية الحفظ يكون حاصلها كم من المعلومات جد متنوعة و عميقة و محفزة للذاكرة أولا ثم للذكاء بعدها .
    وهذا ما انتبه إليه الأولون فبادروا بالتلقين المبكر للصيى و الطفل قبل أن يكبر و تراجعت الأمة بتراجعها عنه خاصة و أنه كان مصدر التخلق و الأدب و حسن المعاملة ؛ فالفرد الحافظ يكون أكثر حصانة من غيره لأن الكم المعرفي الذي أدركه يكون مصدرا لاستخراج الأدلة و إثباث ما توصل إليه عقله من إنتاج فكري ….
    أحيي عنايتكم الأخ الكاتب الكريم و شهر رمضان مبارك بالخير و التقوى إن شاء الله
    كما أتقدم بسلامي إلى الأستاذ الكريم طارق رمضان خاصته عامته و السلام عليكم و رحمة الله تعالى و بركاته .

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا