مشاعر خطرة … تحرير الروح

* تتسم مشاعرنا وعواطفنا في الغالب بالجمال، ولكنها قد تنطوي في الوقت نفسه على شيء من الخطورة. فهي تمثل عفويتنا وتلقائيتنا، وتبدو وكأنها تتحدث إلينا عن حريتنا. وجميع الدراسات المعاصرة- من علم الأعصاب حتى علم النفس والتسويق- تثبت أن مشاعرنا وعواطفنا هي وسيلة للتعبير عن النفس، تلك الوسيلة التي لا قدرة لنا على التحكم فيها إلا قليلا، فهي سريعة التأثر، ويمكن التلاعب بها بسهولة.
يمكن للدعاية والموسيقى والأجواء المحيطة بنا والرسائل الضمنية والأفلام أن تكون ذات تأثير بالغ على مشاعرنا وعواطفنا بحيث لا يصبح لنا قدرة على التحكم فيها؛ لأننا لا نكون على وعي بها. كما أن « معسكر الجيش » الذي ينسق بين وظائف المخ ضعيف وعرضة للتأثر في نفسه ومن داخله. وفي حقيقة الأمر، من يتعرف على سيكولوجية هذا المعسكر وكيف يديره من الخارج يستطيع أن يحكم سيطرته عليه.
عصر الاتصالات العالمية هو أيضاً عصر المشاعر والعاطفة العالمية؛ فمن حادثة موت الأميرة ديانا إلى الفعاليات الرياضية، وحتى كارثة تسونامي المدمرة التي ضربت آسيا في ديسمبر 2004، شهدنا تجمعات شعائرية ضخمة فاضت فيها دموع ملايين الأفراد حزناً أو فرحاً أو حداداً.
إن مثل هذه الظواهر الكونية لا يمكن التنبؤ بها ولا التحكم فيها، فهي تسيطر على وعينا وقلوبنا؛ لا أحد يستطيع التنبؤ بالاتجاه الذي ستجنح إليه أو الآلهة التي ستعبدها تلك الحشود المشبوبة العاطفة. إننا نحاول تقييم المخاطر التي تمثلها هذه « التجمعات الشعائرية » الجديدة لهؤلاء الذين لا يمكن التحكم فيهم على المستويين الفردي والجماعي؛ كيف لنا أن نتحكم في هذه المشاعر؟ كيف يمكننا أن نتصرف بشكل يتسم بالعفوية والعقلانية في الوقت ذاته؟
يمكن أن تؤدي التوترات الشخصية والصراعات الداخلية (التي تعترض العقل والجسد) إلى فقدان خطير للقدرة على التحكم في النفس أو الشعور بعدم التوازن والقلق، لذا نجد التعاليم الأساسية للهندوسية والطاوية والبوذية تشدد على ضرورة: التغلب على الصراعات الداخلية وانعدام التوازن الذي يسبب لنا المعاناة والذي يربطنا وإنسانيتنا.
إن حالة الفرد الطبيعية العيش « في توتر »، وأن يصير ممزقاً بين مطالب العقل الواعي الذي يسعى للتحكم، والمشاعر والأهواء والعاطفة التي تتملك العقل والجسد والقلب. إن الشفاء الروحي يتطلب بحثاً عن التناغم الداخلي والتفكير بروية في مشاعر الفرد وأفكاره وتحرير الذات.
ولهذا الانغماس في « النفس » أهداف عديدة؛ فهو يتضمن التفكير بروية في مشاعر الفرد وأفكاره، ومحاولة النأي بأنفسنا عن ردود أفعالنا العاطفية المباشرة من خلال محاولة تحديدها وملاحظتها والتأمل فيها حتى يتسنى لنا التحكم فيها. كما أن هذا « الدخول في النفس » يكشف جوهر الأشياء، والوجود في العالم، ووجود العالم.
ومن ثم، فإن النأي بأنفسنا عن أنفسنا في نفس الوقت الذي نسعى فيه للوصول إلى بصيرة نافذة مرتبط بالارتقاء بالوعي إلى ما وراء البعد المادي للعناصر بهدف فهم معناها الميتافيزيقي وتأثيرها داخل الكون.
ويكشف الحوار الدائر بين العالم الصغير والكون غير المتناهي بعداً ثالثاً يلقي بالضوء على جوهر النفس، وذكاء القلب، ومعنى الموت؛ لربما كان البدء طويلاً وصعباً، حيث ترتبط مراحل هذه التعاليم ارتباطاً وثيقاً بفهم النفس والتحكم في المشاعر. ويمثل هذا الفهم وهذا التحكم مرحلة في الرحلة تجاه السيطرة التامة على النفس ومن ثم الوصول إلى السمو المطلق (الذي يجلب التناغم والانسجام والسلام حيث تذوب النفس داخل الكل).
وقد تتخذ هذه المرحلة النهائية جوهر وشكل نزعة عاطفية، ريثما يتم توجيه هذه النزعة من قبل العقل الواعي، وتدريبها من جانب المنطق، وإتقانها للسمو بها من خلال هذا التنسيب والاستهلال لتحل في الكينونة والوجود.
يبدو أن عصرنا قد خدعنا عبر الخلط بين حالات عاطفية محددة وأخرى وروحانية؛ فلا شك أنه لا يمكن أن توجد روحانية دون عاطفة، غير أنه في الوقت الذي يمكن أن تحولنا فيه عواطفنا إلى « كائنات قائمة على رد الفعل » أو حتى إلى عبيد ليس لهم إرادة أو حرية، فإن الروحانية تتطلب منا أن نكون كائنات واعية وأن نبحث عن معنى لكل من اللحظة الآنية للدافع ودوائر القدر اللامتناهية.
إن العاطفة هي هذا البعد في الكائن الذي يتجسد في ردة الفعل المباشرة للكينونة؛ في حين أن الروحانية هي ما يكتشفه الكائن ويعبر عنه من خلال التدريب المتمرس لتلك الكينونة.
وفي الوقت الذي تقيدنا فيه مشاعرنا وعواطفنا، فإن الروحانية هي مصدر إلهام وبحث عن الحرية؛ وتتشابه دوما تعاليم الروحانيات القديمة، وعلوم النفس الحديثة، والفلسفات، والأديان؛ وهو الأمر الذي يحتم علينا أن نكون مدركين لماهية الدور الذي نضطلع به أفرادا ومجتمعات، وأن نحافظ على مسافة متزنة بين أنفسنا وبين العالم من حولنا، وأن نتعلم كيف نستمع، وأن نتعلم كيف نتحدث وكيف نتواصل، وأن نتفهم في نهاية المطاف تركيبتنا المعقدة وتلك الخاصة بالآخرين.
لعل ما نقوله هنا يبدو غريبا ومتناقضا غير إن الفعل الأول في التحرر الروحاني يكمن في الموقف المبدئي الذي يتخذه الكائن، حيث إن الخبرة المجربة للروحانية تتطلب من البشر ثلاثة أشياء موجودة ضمنياً في جميع التقاليد الدينية؛ وهي: الاستقلالية (يقابلها الاعتماد على ما يؤثر على الكائن)، والقبول الواعي للمسؤولية (الذي يقابل عقلية الضحية)، إلى جانب سلوك بناء ومفعم بالأمل (الذي يقابل اليأس والانهزامية أو العدمية التي لاتؤمن بإمكانية التغيير). وفي الوقت الذي تعد فيه العاطفة شيئا ما يحدث لنا ونمر به، فإن الروحانية تتطلب فعلاً مبادراً (وعازماً) من الإرادة لكي نؤكد على حريتنا، بغض النظر عن المكان الذي يجد الفرد نفسه فيه. ويجب على الفرد أن يتحمل مسؤولية تحوله، وأن يقوي في نفسه الاعتقاد الجازم بأن كل شيء قابل للتغيير … دائما، بل وللأفضل.
هذه هي الشروط الثلاثة المسبقة لتحقيق الثقة بالنفس. فكيف يمكننا إذن أن نحقق هذه الثقة بالنفس على مستوى الفرد وعلى مستوى الجماعة في عصر يتسم بالخوف وضياع الأمن؟
إن الروحانية تحرر الأشياء وتمنحها معنى ومغزى. وتعتمد على الشروع في إدراك الذات والنضوج وتحمل المسؤولية والتحول التدريجي. والصوفية اليهودية والمسيحية والإسلامية تذكّرنا دوماً بالمراحل الأصلية للصحوة الروحية؛ والتي تمثل للمريد بشكل أساسي تعبيرات عن الخبرات الأكثر بديهية وشيوعا بين عوام البشر. وعندما تواجهنا إشارات ومثيرات خارجية تهدد بالتحكم في رؤسنا وقلوبنا (ووعينا)، فمن الواجب علينا أن نكون مؤهلين سلفا لاستقبال ذلك إذا ما أردنا أن نظل متحكمين في ردود أفعالنا. وحيث استطعنا القيام بذلك، فحينئذ سنظل بشراً وأحراراً.
إن توطين القلب والعقل والخيال على درب تزكية النفس يمنحه رؤية أفضل، وسمع أفضل، وحاسة شم أفضل، وتذوق أفضل، فتحسس بالأشياء على نحو أفضل، وهذا أحد متطلبات الاستقلالية والحرية التي تمثل جوهر الحداثة، والتكنولوجيات المتقدمة، وعولمة وسائل الاتصالات.
وفي عصر الاتصالات العالمية، يعد أي شخص غير مدرب على تكوين رؤية نقدية للمعلومات ضعيف العقل سهل الانقياد عرضة لشتى أنواع التلاعب. ولا شك أننا بحاجة إلى الوقت حتي ننأى بأنفسنا، ونحلل المواقف، ونزن الأمور بشكل نقدي.
لا يوجد شيء سهل، وهذا التدريب الروحي ذو أهمية بالغة إذ يضفي معنى ومغزى على أساسيات هذه الحياة من رؤية وسمع ولمس … وتفكير وصلاة.
إن الروحانية تكمن في المعنى الزائد المتأصل حتى في أشد الأفعال البشرية يسرا، وربما اصطبغت بصبغة الإيمان، أو الفكر، أو الفن، أو الحب، غير أنها دائما ما تحمل في طياتها فرصة للاختيار وفعلاً من أفعال الإرادة الحرة في مقابل العاطفة التي تعد رد فعل سلبي مفروض على المرء وأحيانا لا يمكن التحكم فيه: والبون شاسع بينهما؛ إذ إن العاطفة بالنسبة للروحانية بمثابة الانجذاب الجسدي للحب.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* هذه المقالة مترجمة عن مقالة بالإنجليزية نشرت بتاريخ: ٦ مايو ٢٠١٣ في الرابط التالي:
http://gulfnews.com/opinions/columnists/dangerous-emotions-liberating-spirituality-1.1179972

1 تعليق

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا