استقلالية الأخلاقيات، أخلاقيات الاستقلالية (1/4)

ترجمة: صلاح شياظمي
كان يملك كل مقومات النجاح. فبعدما اجتاز بنجاح امتحاناته الماندارينية، كان على أتم استعداد لاتخاذ مسار روحي وسياسي متميز. لكن الفيلسوف وانغ يانمينج (الذي عاصر القرنين الخامس عشر والسادس عشر) أنصت إلى صوت كرامته، فقرر الدفاع عن مبادئه إلى آخر رمق. ففي سنة 1506 ، قام بالدفاع عن موظف أدخله ضابط السجن بسب قيامه بالتحقيق في قضايا فساد على أعلى مستوى في الإدارة. فأجبر وانغ يانمينج على العيش في المنفى وترك منصبه وتخلى عن الامتيازات المحتملة ليبقى وفيا لمبادئه، كما عاش حالات مماثلة وكان يوثر على الدوام خيار الأخلاق بدل خيار السياسة أو التسوية. لقد سلك طريق التنوير فأبعده عن المبادئ الكلاسيكية للكونفوشيوسية الرسمية حيث لم يكف عن محاولة استمراره متسقا مع نفسه وقيمه وأهدافه. لقد سعى في دراسته لشروط القداسة إلى البحث عن طريق تمكن الإنسان من إدراك عمق الأشياء و التناغم مع جوهر الكون فأثبت أن بداية الطريق تكمن في العودة و التصالح مع الروح و المجاهدة من أجل بلوغ الصفاء الروحي الأصلي قصد التغلب على أوهام الأنا ورغبات الذات. وبالتالي يتمكن للإنسان من اكتشاف جوهر الأخلاق و التصالح مع المعرفة الفطرية التي توحي بوجود الخير والشر .فوراء ستار الأحداث المضللة، يكتشف الإنسان البناء الأخلاقي لكل ما أودع فيه وبالتالي فلا حاجة له للبحث عن ذلك في مكان آخر إلى من خلال الغوص في أعماق ذاته.
بتأثرها إلى حد كبير بالبوذية، تعاطت الكونفوشيوسية الجديدة ليانمينج بشكل إيجابي مع إشكالية الألفية الفلسفية المتعلقة بسؤال ما إذا كانت الأخلاق فطرية أو مكتسبة. فكما جاء في تراث الطرق الروحية و الديانات التوحيدية، فإن الفيلسوف الصيني أكد أنه في حالة الصفاء الروحي، بإمكان الروح الولوج إلى السلام الداخلي فتصبح منجذبة إلى الخير. لم يتبن كل الفلاسفة من قبل هذه الرؤية،فحتى الأطروحتان المتعارضتان المتعلقتان بالإنسان -حيث يصفه روسو بالإنسان الخير في حين يصفه هوبس بالإنسان العدواني في جوهره- تضعان الأخلاق في موضع بعدي كنتيجة لصياغة القوانين و التعاقد الاجتماعي. هكذا تكون الأخلاق أداة تمت صياغتها بعديا، في مقام أكبر من كونها مبدأ مؤسسا قبليا، والتي تهتم بضبط السلوك البشري في علاقات الناس مع بعضهم البعض حسب نظرية هوبس، أو في علاقاتهم مع السلطة حسب نظرية التعاقد الاجتماعي لروسو. إن هذا التساؤل غاية في الأهمية كما لا يقل الجواب أهمية عن السؤال؛ ففيما يخص الجانب الروحي، فوانغ يانمينغ يجعل من الأخلاق مبدأ أساسيا وينص أن الفعل الأخلاقي يؤدي إلى الاتحاد ودمج البعدين المبدئي والعملي في العقل ؛وبالتالي يؤدي هذا الدمج بين المبدئ والفعل إلى السلام والانسجام مع الكون و مع الناس و مع المخلوقات كذلك. كما ينسجم هذا الأمر مع مبدأ الإيمان والمحبة المقترن بالأوامر الأخلاقية التي توجد أيضا في التعاليم الأساسية لليهودية والمسيحية والإسلام. أما على المستوى العقلاني الصرف، فلا يمكن اعتبار الأخلاق عنصرا من عناصر التحرير بل عاملا من عوامل الضبط و إكراها يكون في غالب الأحيان مفيدا وإيجابيا؛ وبالتالي فلا مكان للأخلاق في العقل بل تجد مكانها ووظيفتها بين العقول وتتيح الانسجام في العلاقات بين الأشخاص.
لم يكن هذا الموقف الوحيد الذي عبر عنه الفلاسفة، خصوصا بالنسبة للفلاسفة الذين يتبنون النهج القائم على العقلانية. ففي كتابه نقد العقل العملي، قام كانط بتحديد مبدأ استقلالية الأخلاق الذي يتطلب بالتأكيد وضع فرضيات الاتساق )الحرية والله، وخلود الروح) و الذي لا يستند إلى شيء إلا لضرورته الخاصة. فأن تقول لضمير الفرد « اعمل دائما بحيث يكون تعامل الإنسانية في شخصك وفي أشخاص الآخرين كغاية، لا مجرد وسيلة » فهو بمثابة أمر قطعي بطابع كوني. فما تحدثه الروحانية والدين في قلب الانسان باسم الإيمان أو باسم المعنى المطلق ، يضعه كانط بشكل عقلاني كحكمة كونية في حد ذاتها وفي العلاقات مع الأفراد. كما عثر كانط في متاهات النقاد القاسية و في أسس ميتافيزيقا الأخلاق ، على بعض التطلعات الروحانية فقال: »شيئان يملآن الوجدان بإجلال وإعجاب يتجددان ويزدادان على الدوام كلما أمعن الفكر التأمل فيهما: السماء ذات النجوم من فوقي والقانون الأخلاقي في صدري ».
لقد تحدث كانط عن الأخلاق، كما تحدث من قبله الفيلسوف العقلاني سبينوزا عن الأخلاقيات. بالنسبة لسبينوزا، فالأخلاقيات هي السبيل الذي يجعل الانسان عاملا نشطا، ومن خلالها يسلم أوهام الكمال التي تعتري خياله إلى تدبير عقلاني و رشيد. إن التوتر قائم و مستمر بين القوتين، فالأخلاقيات تتيح القدرة للوعي الإنساني بتغييره من مجرد كائن إلى فاعل. وبالتالي تتموضع النقاشات المعاصرة التي تميز بين الأخلاق والأخلاقيات بين هذين القطبين؛بين الأخلاق الكونية التي تكتسي صبغة الأمر حسب كانط ، وبين أخلاقيات الوعي الفردي التي تسيطر وفقا لسبينوزا. يعترف بول ريكور أن التمييز الذي يعمل به تقليدي بحث: فالأخلاقات في قاموسه ووفقا للتقاليد الفلسفية الأرسطية تعتبر تطلعا فرديا إلى الخير على مستوى السلوك، في حين تعتبر الأخلاق معيارا كونيا ملزما وينطبق على البشر كما يشير كانط. لقد تأثر أيضا الفيلسوف الألماني هابرماس بكانط، وقد أقر كذلك هذا التمييز من خلال ربط الأخلاقيات بالمبادئ المادية للحساسية و بقرارات الفرد في السعي لتحقيق الخير، في حين اعتبر أن الأخلاق تتأسس على المبادئ الشكلية ذات طابع كوني. غير أن هابيرماس يريد أن يعرض كونية المبادئ الأخلاقية للحق والعدل إلى مساءلتها ودراستها بشكل نقدي. لا يتعلق الأمر فقط بالتأكيد على الأساس الكوني الذي وضعه كانط و المتعلق بالواجب الأخلاقي القطعي والذي ينص على القاعدة التالية : « اعمل دائما بحيث يكون في استطاعتك أن تجعل من قاعدة فعلك قانونا كونيا » بل هناك حاجة لفتح النقاش حول كونية الأخلاق وتأسيسها على « كل ما يمكن الاعتراف به كمعيار كوني ».
فمنذ القرن السادس عشر إلى التقاليد الدينية التي عرفتها الألفية الثانية مرورا بالعقلانية وعصر الأنوار ثم القرن العشرين ؛ كل شيء يحدث كما لو كنا لم نتوقف من السير بشكل دائري فنواجه دائما نفس الأسئلة رغم صياغتها بشكل مختلف وتتعلق بالأخلاق والأخلاقيات: هل يوجد في كل فرد منا) أو في عقولنا بتعبير يانجمينج( حسا أخلاقيا فطريا الذي يمكن أن يكتسي طابعا كونيا؟وهل الأخلاق مبدأ أساسي للسلوك أم أداة ظرفية تستخدم للحماية أو السيطرة في العلاقات بين الأشخاص؟ و هل هناك فرق وهل ينبغي صياغة هذا الفرق بين السعي الفردي والجماعي لعمل الخير (الأخلاقيات) وبين المعيار الكوني المشترك الذي ينطبق على الجميع (الأخلاق)؟ إن التساؤلات حول أصل الأخلاق ووظيفتها وأهدافها كرست التمييز بين الأخلاق كمصطلح لاتيني والأخلاقيات كمصطلح يوناني، ولكن الذي يزال ثابتا ، في قلب النقاشات التي لم تنتهي، هو الحاجة الماسة إلى تحديد قواعد ومعايير الخير والحق و العدالة و التي مهما كانت أصولها، فإنها تبقى خارجة عن كيان الأشخاص وتضبط العلاقات بين الجميع. فسواء كانت الأخلاق مدفونة في عمق كياني أم نشأت في متاهات التفكير ، فلابد أن تستقر خارج شخصي وتتحول إلى أخلاقيات جماعية ، آنذاك يمكن أن نناقش ما إذا كانت تكتسي طابعا كونيا أم لا ،و ذلك عبر الاعتراف الجماعي بوظيفتها الحمائية والقائمة على الضبط. إن عصرنا الحالي يخشى من الأخلاق، لكنه في المقابل يكن المحبة للأخلاقيات. وهذا لا يعدو أن يكون سوى تمييز اصطلاحي تقليدي تتمثل مهمته في طمأنة السلطة، بحكم أن الأخلاق تبدو أمرا يفرض على الجميع أما الأخلاقيات يتم التفاوض بشأنها. يبقى أن السلوك البشري يحتاج إلى حدود كما تحتاج المجتمعات إلى معايير نسبية كانت أم كونية، مفروضة كانت أم تم التفاوض بشأنها. فليس هناك مجتمع إنساني بدون أخلاقيات. فالأمثل هو أن تكون الأخلاقيات سارية المفعول على الجميع مهما كانت المثل القائمة ودون أن تكون ملكا لأحد. إن الأنظمة الدكتاتورية والأنظمة التي تستمد شرعيتها من الدين -بحكم تعريفها- تعمل على تحريف معنى هذه المثالية، في حين أن الأنظمة الديمقراطية -بحكم التناقضات الموجودة بين المثل العليا المنصوص عليها وبين الممارسات الفعلية -تنتهي في أغلب الأحيان بكل دهاء بجعل الأخلاقيات المشتركة هي المعيار والأداة الحصرية لبعض الطبقات الاجتماعية أو العرقية أو النوعية و ذلك من أجل فرض نوع من السلطة.

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا