ذهنية « الأنديجين » وعقدة التخلف| بقلم محمد بن عمر باحريز

ذهنية ‘الأنديجين’1 وعقدة التخلف

يهزّ كياني كتاب’ العفن’ للمفكر الإسلامي ‘مالك بن نبي’. هذا العالم الذي لا أجد في حقه عبارة تصف فكره المتقد و حسَّه النافذ. قد وقفت متأملا أمام كل محطة من محطات حياته، أزداد ذهولا كلما واصلت تقليب الصفحات، أو قل تصفُّح الأزمات التي ارتبطت بها حياة هذا الرجل دون أن تزعزعه أو تثنيه عن رسالته الحضارية. لكن ما فطر قلبي، و أدمع عيني؛ هو أزمة العالَم الإسلامي ذاتُها، أزمة المسلم و ضعفه الفادح في إدراك ما حوله، و التمييز بين الغث و السمين من سيول الوقائع و الأحداث، ناهيك عن تقرير وجهته بمنهج سليم وتفكير رصين. الأدهى من كل هذا و ذاك؛ هو عدم إدراكه تماما بهذا الضعف و عدم إحساسه بتاتا بهذا الوهن، مما جعله لعبة مسلية بيد الآلة الاستعمارية الماكرة، تعبث به وقتما أرادت، و كيفما شاءت.
هذه الصورة المشؤومة أذاقت مالك بن نبي الأمرين، نتيجة تفطنه لخباياها و تفكيكه لعقدها الخبيثة. ابن نبي باختصار تجاوز ذهنية الأهالي أو ‘ذهنية الأنديجين’ كما يسميها، و انفلت من دائرة ‘القابلية للاستعمار’، فوقف مرفوع الهامة شامخا، واثقا من ذاته الحضارية و إرثه العربي الإسلامي الغني، مجابها سلطة و سطوة الأفكار الغربية القاتلة، الأمر الذي جعل المستعمر ينتفض مذعورا لخطورة الوضع، و يواجه حقيقة أن سمومه السيكولوجية التي يعكف على تحضيرها في مخابره أضحت لا تؤثر في هذا الرجل المسلم، فلجأ إلى تضييق الخناق عليه بشتى الوسائل و الطرق، و قطَع كل أمل في حياة كريمة أمام ناظرَيه، إلا أن ابن نبي الشاب المسلم العالم كان قد سبق المستعمِر بمراحل، بإيمانه الراسخ و بعلاقته الوطيدة مع خالقه جل و علا، فقد دعاه و هو لازال مقبلا بكل أمل و حماس على الحياة، أن يدّخر له كل خير إلى الدار الأخرى، فدخل المعركة فائزا منتصرا، محتكما إلى أحكام تلك الدار الخالدة بعيدا عن معايير هذه الدار الفانية.
من خلال صورة العفن المقيتة أحاول أن أفهم الواقع الذي تعيشه الجزائر هذه الأيام خصوصا، و ما يعيشه العالم الإسلامي عموما، فبعد مضي 64 سنة كاملة عن تأليف هذا الكتاب، و بالرغم من مرور نصف قرن من الزمان على استقلال هذا الوطن، إلا أننا لا زلنا للأسف نعيش وفق ‘ذهنية الأنديجين’ بتعدد صورها و أشكالها، و اختلاف أعراضها، فالخطابات الحماسية لازالت تدغدغ شعورنا البريء، ووعود البوليتيك2 الوهمية ما فتئت تغري كياننا ، و الصورة اللقيطة على الشاشة هي من يصنع أحكامنا، و’الأخبار العاجلة’ لا زالت تستفزنا و تحركنا من أماكننا، و سمُّ المطالبة بالحقوق عوض الاهتمام بالواجبات لا زال يطيل غيبوبتنا، فمتى سنفتح أعيننا يا ترى؟
‘إنسان الأنديجين’ غير مدرك بأن مستوى الصراع كان دائما و أبدا في مستوى الأفكار و التصورات، فلا الأحداث السياسية، و لا الضوضاء الإعلامية، و لا رؤوس الأموال، و لا النفوذ، و لا حروز الانتخابات 3تستطيع أن تحدث معجزة التغيير و الإصلاح، فهي آنية، عقيمة، تشتم منها ريح النفاق، تحكمها الأنا الطماعة، وتسيرها المصالح. و لا حسن النية وحده كذلك…
بذور التغيير تنمو في تربة الصبر و الإيمان و الهدوء و النفَس الطويل، و لقد صاغ مالك هذه الحقيقة قائلا: ‘إن من الصعوبة الجمَّة أن تكوِّن رجلا واحدا من أن تدهش آلاف المستمعين و تجذب اهتمامهم بالخطب الوطنية’. هذه البذور تأبى الإنتاش إلا أن تتغير الأفكار في العقول، و تكتسب الفُهوم الحرارة4 اللازمة في القلوب، فتستحيلَ وعيا يتفجَّر أفعالا. بذور التغيير هي ثمار مسار تربوي حضاري، يرابط فيه الناس مرابطة المسلمين في ‘تلة الرماة’ وهم كلهم وعي بأن انسحابهم كل مرة إنما هو تكرير لمشهد خسارة المسلمين يوم أحد…
ستسلك البذور طريقها من ظلمة العدم إلى نور الوجود، و ستتفتح أزهارها على يد شباب من هذه الأمة فهموا بأن ‘تلة الرماة’ اليوم هي ‘التربية والتعليم’ و ‘مراكز التفكير’ التي تنظُم سيمفونية الفعل على أرض الواقع، و أن الحفاظ على ظهر الأمة آمنا لا يكون إلا بإتيان فعل المرابطة و الصبر على الواجب، عوض الجري وراء الحقوق و الغنائم، فاللهم اجعلنا فداءً لهؤلاء…
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- لا يقصد مالك بن نبي من مصطلح الأنديجين ‘indigène’ الفرد من الأهالي ذاته، لكنه يتعامل مع الكلمة على أنها إنتاج للآلة الاستعمارية، و طريقة من طرق خطابها تجاه مستعمَراتها، فهذه الآلة استثمرت ضعف النظر، و الجهل المستفحل في أوساط الشعوب المستعمَرة، فعملت على ترسيخ هذا الاعتقاد القاتل على أنه حقيقة و قدَر محتوم لا يمكن لإنسان المستعمَرات أن يتجاوزه.
2- ‘Boulitique’:كلمة بالعامية الجزائرية استخلصت من تحريف كلمة ‘politique’ و يقصد بها بن نبي السياسة العقيمة التي تغيب فيها الفعالية و تبنى على الكذب و الخداع و الدجل، يحترفها المرتزقة و المشبوهون و الجهلة. و يفرق بن نبي بينها و بين السياسة التي يعتبرها علما ترسم أهدافا و تجنِّد وسائل و لا تخطئ إلا في حدود خطأ العلم. العبارة من مفردات قاموس الفكر البنَابي (مترجم كتاب العفن)
3-‘يشبِّه مالك بن نبي أوراق الانتخابات بالحروز التي كان يؤمن بعض الناس في أوساط الجهل و الشعوذة بأنها تحقق المعجزات ويقول بأن أوراق الانتخابات في سياقات البوليتيك جهل و شعوذة بحُلَّة جديدة.
4- ‘الوعي هو الحرارة الملازمة للمعنى’ د. بباعمي

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا