القراءة الجيوستراتيجية للحراكات الشعبية

طارق رمضان : امتدادا لتفكيرنا في التّسامح والعّلمانية والمشاكل التي نُواجهها في مجتمعاتنا، أَوَدُّ حقيقة أن نُقَدِّمَ تفكيرا أوسع نِطاقا وأكثر شُمولية حول وضعية العالم والأسئلة الاجتماعية والسِّياسية والاقتصادية والثقافية المُعاصرة. نتحدث كثيرا في الغرب عن اندماج المسلمين، وقضيّة الإسلام التي تَشْغَلُ السّاحة الدولية، على مستوى العُنف والتّطرُّف، والشّرق الأوسط المُضْطَرِب، وقضيّة المهاجرين واللاَّجئين. في الأساس، نَجِدُ أنّ الغَرْبِ لم يُخْطِئْ في تصوُّرِه وخِطابِه السياسي عندما يتحدّثُ عن انبعاث عَدُوٍّ جديد- بعد العَدُوّ «الأحمر»- يَشْتَغِلُ هنا وهناك من خلال «الفاشية الإسلامية» المزعومة والعنف واتّضاح رؤيته الجديدة في الغرب. نَشْهَدُ كذلك لدى المسلمين رَدَّ فِعْلٍ مُزْدَوَجٍ تُجَاهَ هذه القراءة الجديدة للعالم، وتجاه الخطاب الذي يَصُوغُ هذه القراءة. إِمَّا أن تَجِدَهُمْ يَتَبَنَّوْنَ مُقاربة دِفاعية عن الدين أو مُقاربة رافضة لهذه القراءة، وإِمَّا أن تَجِدَهُمْ  يُجَسِّدون عقلية الضحية التي تُجَرِّدُهُمْ من المسؤولية. لكن في حقيقة الأمر، أعتقدُ أنّ هذه القراءة في أصلها خاطئة وخادعة وكاذبة، وتُحَوِّلُ التّفكيرَ السّياسي والجيوستراتيجي والاقتصادي إلى منهج اختزالي ثقافي وديني خطير جدا. إنّه تلاعب أيديولوجي حقيقي. لا يجب الاكتفاء بِنَقْدٍ مَنْهَجِيٍّ وعميق لهذه القراءة وللانحرافات التي تنطوي عليها فحسب، بل يجب العمل للحيلولة دون سقوط الوعي الإسلامي المعاصر في فَخِّ رَدِّ الفعل على التصريحات الذي يُفْرَضُ عليه والذي يَمْنَعُهُ من التفكير في تَطوُّره وتَحَرُّرِه من أغلاله الخاصّة به ومن الهيمنة السّياسية والاقتصادية.

في هذا التبادل بين الأفكار، من المهم جدا وضع الأمور في نصابها، ومن المهم كذلك إعادة التأكيد على ضرورة القراءات السياسية والاقتصادية التي تقوم بوضع روابط بين الحالات التّاريخية والجغرافية كذلك. لِأُعِيدَ ذِكْر مُصطلح تحبونه كثيرا، أقول إنه يجب التفكير في التَّعْقِيد السياسي أو الطابع السياسي المركب للعالم وموازين القوة تحت جميع أشكالها. سآخذ مثالا راهِنا. لقد أظهر العالم حماسة كبيرة إزاء الحِراكات الشعبية وما نُسَمِّيهِ ب « الرّبيع العربي ». لقد شعر الناس بالفرحة والطمأنينة عندما رأوا الشعوب تتبنى قيم الكرامة والعدالة والحرية. كان الناس يَظنون أنّ الخطرَ الوحيدَ الذي قد يَنْتُجُ عن هذه الحراكات هو وُصول الإسلاميين إلى السُّلطة، ومازالوا يتمسكون بهذا التحليل إلى يومنا هذا. والواقع أنه منذ 2011 وخصوصا في كتابي حول الصحوة العربية[1]، قُمْتُ بتطوير مُقاربة أكثر تَبَصُّراً وأكثر شمولية فيما يَخُصُّ الرّهانات الإقليمية. لقد رَحَّبْتُ بالتأكيد بالحراكات وآمال الشعوب، لكنّني نَبَّهْتُ إلى الرّهانات الأخرى. الذّين انتقدوا كتابي كانوا يرغبون في اختزاله في تحليل يتبنى نَظَرِيّة المؤامرة التي تجعلنا نَعتقد أن الولايات المتحدة الأمريكية هي من تَكُونُ وراء هذه الانتفاضات. أنا لم أقل ذلك، أنا كَشَفْتُ فقط أنّ الأنظمة كانت على عِلْمٍ بالأحداث وأنّ بعض المؤسسات مَوَّلَتْ تكوين” المعترضين  الشبكيين »[2]  ( الذين يستعملون الأنترنيت وشبكات التواصل لدعم الحراك) من تُونس حتّى مصر وليبيا وسُوريا. وهذا الأمر مَعْرُوف الآن ومُؤَكّد. رغم ذلك، فهذا ليس هو أساس أطروحتي. لقد أَكَّدْتُ أن القِراءة السياسية والثقافية المحضة للانتفاضات كانت ساذجة وخطيرة. إنّ مُسلسل الدّمقرطة المزعوم في الشرق الأوسط الذي أعلنه جورج بوش في 2003  كان له أهداف اقتصادية وجيوستراتيجية في الأساس. للأسف، أَكَّدَتِ الأحداث ما قلته، وما نشهده الآن في الشرق الأوسط مع هذا الاضطراب الشامل وتَعَدُّد النزاعات مُنْخَفِضَة الحِدَّة كما تُسَمِّي ذلك الإدارة الأمريكية، يَكْشِفُ أن الرهانات كانت اقتصادية وجيوستراتيجية، مع إعادة تَمَوْقُعِ الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، وحضور فاعلين اقتصاديين جُدُد كروسيا والهند والصين وتركيا خصوصا. دون أن ننسى الانتقال الظاهر لمركز ثِقْل الأولويات، الذي انتقل من الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي إلى التوترات الداخلية والمواجهات بين إيران والمملكة العربية السعودية، وبين السُّنَّة والشِّيعة حول القضية السورية، والتَّوَتُّرَات في العراق، والدَّوْر التُّركي وحتى التوترات بين دول الخليج. هذا الانتقال واضح لكنه لا يقول كل شيء عن الرهانات الإقليمة. بالإضافة إلى ذلك، أعتقد أنه من الواجب حَتْماً توسيع المنظور والربط بين هذه المنطقة وما يحدث في أمريكا نفسها وأوروبا. في هذا الصّدد، أَحْبَبْتُ كثيرا مقاربة أنجيلا داڤيس أَيْقُونَة قضية السُّود والمقاومة السياسية، التي تُقيم أكثر فأكثر روابط بين جميع المقاومات باسم مَنَاطِق ( جَمْع مَنْطِق) السلطة التي يَرْتَبِطُ بعضها ببعض بالتأكيد. الأيديولوجية نفسها، واللّوبيات البنكية والمالية نفسها، والشركات مُتعددة الجنسية نفسها كذلك، هي التي تشتغل على المستوى الدولي. في هذا الصدد، المُقاومة التي يَخُوضُهَا السُّودُ في أمريكا يجب أن تكون لها علاقة بالمقاومة الفلسطينية التي تبقى قضية مركزية، كما أن السّياسات الوطنية، كالسياسات الشّرق- الأوسطية والدولية على نطاق واسع، تبقى مرتبطة بعضها ببعض وتستجيب لمنطق مُشْتَركٍ. هذه القراءة مُتَطَلِّبَة وصَعْبة لكنها ضرورية.

[1] Tariq Ramadan, L’Islam et le Réveil arabe, Presses du Châtelet, Paris, 2011.

[2] Cyberdissidents : المعترضون الشبكيون

مقطع من كتاب : القضايا الإنسانية الطارئة والجوهرية- طارق رمضان و إدغار موران.

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا