الإسلام و التحديات المعاصرة

يواجه المسلمون اليوم العديد من التحديات. هناك جملة من المبادئ والقواعد والأهداف التي يصعب تطبيقها أو تحقيقها ، والتي غالبًا ما يتعارض معها سلوك المسلمين؛ تتجلى في أركان الإيمان والممارسات ومتطلبات الطريق. ففي مواجهة التصورات السلبية في كثير من الأحيان، يلجأ بعضهم إلى الاحتفال بالماضي ، أو إلى الدفاع والتبرير ، أو الأسوأ من ذلك، إلى حالة الإنكار . في الواقع ، يبقى التحدي الأكبر سيكولوجيا بدون شك. ويرجع ذلك إلى هذا الميل إلى إضفاء طابع المثالية على الماضي ، وإضفاء طابع النسبية على المشاكل المعاصرة، وإلقاء اللوم على الآخرين. ومع ذلك، من الضروري معالجة مسألة العلاقة بالنصوص، وتعدد الآراء والتأويلات الفقهية، والخلط بين الدين والثقافة ، فضلاً عن معالجة مسألة الافتقار إلى الحوار بين مختلف التيارات المكونة للأمة. تظل كذلك مسألة الرجل والمرأة ، والمساواة بينهما ، والعلاقة بينهما مركزية. هذه التحديات؛ يتعلق جزء منها بالمجتمعات ذات الأغلبية المسلمة، والجزء الآخر يتعلق بشكل أكثر تحديدًا بالمسلمين الذين يعيشون كأقليات دينية في جميع أنحاء العالم. هناك تحديات أخرى تظل مشتركة كالتربية والتعليم مثلا.
الماضي والحاضر
لقد قيل الكثير عن مفهومي « الدين » و »الحضارة » الإسلاميين؛ وإسهام المفهوم الأول كتعريف للمفهوم الثاني؛ دون أن يكون ذلك محل إجماع بشكل دائم. مع ذلك، يتفق جميع المؤرخين على أن الحضارة الإسلامية عاشت على الخصوص فترات من الازدهار، أو ما يسمى « بالعصور الذهبية » التي شهدها التاريخ الإسلامي تحت حكم مختلف الإمبراطوريات الإسلامية، التي تشكلت منذ النشأة، في مكة والمدينة، وبعد ذلك في دمشق تحت حكم الأمويين؛ مع الإشعاع الذي عرفته بغداد تحت حكم العباسيين، دون أن ننسى الإسهامات الاستثنائية التي شهدتها الأندلس، بالإضافة إلى الفترة الطويلة لحكم سليمان الأول الملقب ب « القانوني » أو « العظيم »، التي دامت ست وأربعين سنة.
ولذا، فمن المهم التذكير ودراسة هذا الماضي لمعرفة عوامل النجاح؛ وأسباب الانكسار والتفكك كذلك، من أجل استيعاب الدروس المفيدة لمواجهة تحديات الحاضر.
الإسلام والعصور الذهبية
يعزى انتشار الإسلام و المسلمين وإسهامهم عبر القارات إلى عامل مكان الاستقرار، وطبيعة العلاقات مع الحضارات والأديان والثقافات الأخرى. فقبل الإسلام، كانت مكة مركزا رئيسا للتبادلات التجارية، إذ كانت القبائل من المناطق المجاورة تلتقي هناك، من أجل التجارة، والكسب المادي، إضافة إلى التبادل الثقافي. ومع الانتشار السريع جدا للإسلام، وتجمع المسلمين من كل حدب وصوب في مكة لإقامة فريضة الحج، واستقرار المسلمين قريبا من مفترق الطرق التجارية، تراكمت العديد من العوامل الموضوعية التي تفسر الحركية التي شهدتها الحضارة الإسلامية أكثر بكثير من العوامل المتعلقة بالغزوات العسكرية؛ بعيدا عن هذا الانتشار الذي أتينا على ذكره.
نجد خصوصا التجار الذين كانوا يهاجرون على طول الطرق التجارية من شمال أفريقيا حتى أوروبا، نحو الغرب وحتى الهند، والصين وآسيا الجنوب-غربية، إلى البلدان الشرقية، دون أن ننسى حضورهم القوي في الشرق الأوسط، وآسيا الوسطى ( سواء في أصفهان أو سمرقند، إلخ) ؛ هؤلاء استقروا هناك، وحدث ما يسمى بالتثاقف أو الاحتكاك الثقافي. كانوا يحملون لغة معينة، بالإضافة إلى إيمانهم، وممارسات تجارية وثقافات متنوعة. كانت السلطات السياسية والاقتصادية لمختلف الأمبراطوريات تصاحب هذه الحركية بالاستناد إلى لغة محددة، وفرض عملة معينة، وتقنين التجارة، دون التدخل أكثر في التنظيم العملي، الذي كان شأنه متروكا لتقدير السلطات المحلية. هذه الحركية المزدوجة التي تجلت في الهجرة من الضاحية إلى المركز، ومن المركز إلى الضاحية، بالإضافة إلى الحج ونشر الإيمان واللغة والثقافات؛ كان لها الفضل في ميلاد إسهامات عديدة وتلاقحات مثمرة ومتبادلة، بعيدا عن التبادلات التجارية والملتقيات الفكرية والثقافية.
كان أول عصر ذهبي شهده الإسلام بين القرن الثامن والثالث عشر ميلادي، حيث كان الحكم في أيدي العرب خصوصا. خلال هذه القرون الستة، كان الإشعاع الروحي والفكري والتجاري والعسكري الذي شهدته الأمبراطوريات الإسلامية المتعاقبة لافتا للنظر. مع وصول المامون إلى السلطة (الذي توفي سنة 833 م)، بني مرصد بغداد الفلكي سنة 829 م، الذي قام بتطوير علم الفلك، كما بنيت دار الحكمة سنة 832 م، فكانت مركزا للدراسات والأبحاث والترجمة مفتوحا في وجه جميع المفكرين والباحثين عبر العالم.
كانت « بيوت الحكمة » في كل من بغداد، والقاهرة، ودمشق في احتكاك دائم بالحضارات الفارسية، واليونانية، والرومانية، والصينية، والهندية. كانت تترجم فيها إلى اللغة العربية أمهات الكتب العلمية والفلسفية والفنية. و كان العلماء والمفكرون العرب المسلمون، واليهود والمسيحيون كذلك، يضيفون إسهاماتهم الخاصة بهم، مع بناء روابط وجسور بين المعارف والعلوم ومختلف حضارات العالم، انطلاقا من إيمانهم ومراجعهم الثقافية. لقد تطورت العديد من المجالات آنذاك، نذكر منها علوم الفلك، والرياضيات ( الجبر، والحسابيات، والهندسة)، والطب ( الدورة الدموية، والبصريات، والجراحة، والتخدير، والتشريح، وبناء أولى المستشفيات، إلخ)، والفيزياء، والكيمياء، والجغرافيا، وعلوم النبات والحيوانات والزراعة. كان النظام العشري الهندي هو نظام الأرقام المعتمد.
وهكذا، كانت تلتقي اكتشافات بعضهم بفرضيات الآخرين، كما كانت بيوت الحكمة تنتج معارف علمية جديدة وأصيلة، بفضل استغلال المراجع المتوفرة وتنوعها. والأمر نفسه بالنسبة إلى الفلسفة، مع وجود الإرث اليوناني-الروماني وعلم الكلام، وعلم الاجتماع- إذ يبقى مؤلف ابن خلدون معلوما لدى الجميع- والشعر، والهندسة المعمارية، والفنون. ومنذ القرن الثامن، استعارت الحضارة الإسلامية من الصين استعمال الورق، وقامت بنشره من الشرق إلى الغرب؛ الأمر الذي أتاح تطوير المعارف والتقنيات بشكل غير مسبوق. وهكذا، طيلة ستة قرون، كانت تتميز الحضارة الإسلامية باحتفائها بالمعارف بجميع أشكالها سواء تعلق الأمر بالعلوم الصحيحة، أو التجريبية أو الإنسانية؛ إذ كان الإيمان- الذي كان يستند على المعرفة والتربية والتطور- حافزا ولم يشكل أبدا عائقا للتطور.
كانت فترة الأندلس من القرن الثامن حتى سقوط غرناطة في القرن الخامس عشر، فترة تاريخية في أوج الازدهار، غنية بالإسهامات الفكرية متعددة المصادر، سواء كانت يهودية أو مسيحية أو إسلامية. وكانت فترة حكم سليمان العظيم (1520-1566) تتميز بالتوسع العسكري، وعرفت ازدهارا كبيرا بفضل الإصلاحات الإدارية والقانونية ( ولذا سمي بسليمان القانوني)، ومشاريعه المعمارية وتطور الفنون عبر العديد من الجمعيات التي كانت تتخذ قصر توب كابي مركزا لها في اسطنبول.
هذه الفترات التاريخية المزهرة هي أدلة واضحة على أن الإسلام لم يكن أبدا كابحا لتطور العلوم فحسب، بل كان الدين محركا لها طيلة قرون على الصعيد العالمي، شريطة استيعابه جيدا. لقد قللوا من أهمية الإسهام الإسلامي في الثقافة الغربية، بل حجبوها في أغلب الأحيان، بالتأكيد أن المسلمين – خلافا لكل حقيقة- لم يكونوا سوى مترجمين، أو جسورا، أو مجرد ناشرين للتراث اليوناني والروماني. أو باختصار، لم يقوموا إلا باسترجاع لأوروبا ما كان في حوزتها، أو على الأكثر، لم يقوموا إلا بنقل حفنة من المعارف الآتية من الصين ( الورق) أو الهند ( الحساب العشري ) إلى أوروبا.
والواقع، أن إسهام المسلمين كان جوهريا ومهما للغاية في جميع المجالات التي أتينا على ذكرها. إن دراسة جدية للأمور تثبت إسهاماتهم الفكرية، والعلمية، والاجتماعية، والفنية. إن الثقافة الأوربية والغربية تملك جذورا يونانية-رومانية و تملك فعلا جذورا يهودية-مسيحية- إسلامية كذلك.
يتبع…
طارق رمضان – عبقرية الإسلام : مدخل إلى الأسس والروحانية والتاريخ.
Le génie de l’islam – Initiation à ses fondements, sa spiritualité et son histoire, Tariq Ramadan, Presses du Châtelet, 2016.

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا