دعوة عالمية من أجل (موراتوريوم) تعليق العمل بالعقوبات الجسدية وعقوبة الرجم والحكم بالإعدام في العالم الإسلامي

يتعرض المسلمون عموما  والجاليات الإسلامية علي وجه الخصوص لسؤال أساسي وإن  بات روتينيا من فرط ما طرح علي طاولة  البحث وهو يتعلق ب تطبيق العقوبات ذات الصلة بقانون العقوبات الإسلامي. بالإشارة إلي مسألة تطبيق الشريعة أو بشكل أضيق موضوع الحدود.  واللافت في الأمر أن النقاش حول هذا الموضوع  يقدم  في صورة أسئلة تحض علي التفكير بين جمهور العلماء أو عموم المسلمين. من بين هذه التساؤلات هو كيف يكون المرء مخلصا لرسالة الإسلام في المرحلة الراهنة ؟ كيف يمكن للمجتمع أن يعرف نفسه بأنه مجتمع مسلم بحق بخلاف ماهو مطلوب من كل فرد مسلم في حياته اليومية؟

 

في العالم الإسلامي اليوم هناك تيارات متنوعة والأختلافات بينها لا حصر لها وهي إختلافات عميقة ومتكررة. وتطالب بعضا من هذه التيارات الفكرية -والتي تمثل أقلية صغيرة- التطبيق الفوري والصارم للحدود معتبرين أنها أمرا حاسما في توصيف مجتمع الغالبية المسلمة بكونه مجتمعا إسلاميا. بينما هناك تيارات أخري تعتمد علي كون موضوع الحدود قد ورد ذكره في النصوص المرجعية كالقرأن والسنة وهؤلاء يعتبرون أن تطبيق الحدود لابد وأن يكون مشروطا بوضعية المجتمع وهو في هذه الحالة لابد وأن يكون عادلا وبالنسبة لبعض منهم « مثالي ». الأولوية إذن تتمثل في دعم مبدأ العدالة الإجتماعية ومحاربة الفقر ومعدلات الأمية العالية. ثم هناك أخرون- وهم بمثابة أقلية-  ترفض النصوص المتعلقة بالحدود وتعتبر أن هذه  المصادر ليس لها مكان في المجتمعات الإسلامية الحديثة

 

ويمكن للمرء ملاحظة إنقسام الأراء الحاصل حيال هذه المسألة ومن الصعوبة بماكان فهم بوضوح ماهية الطروحات المختلفة. و حتي أثناء كتابة هذه العريضة  مازال الغموض يلف المواقف ولا يبدو أن ثمة مجال للنقاش والجدل داخل المجتمعات الإسلامية بينما يتم تطبيق هذه العقوبات بحق الرجال والنساء في الوقت الذي لم يتحقق فيه إجماعا بعد حولها بين المسلمين أنفسهم.

 

إن الإسلام بالنسبة للمسلمين هو بمثابة رسالة مساواة وعدل. ولنظل مخلصين لجوهر الرسالة تلك لم يعد ممكنا أن نلتزم الصمت حيال التطبيق الغير عادل للنصوص الدينية . من الضرورة بماكان تحرير عملية النقاش ذاتها وأن لا نرضي فقط بالإستجابات الخجولة ذات الطابع العام. إن الصمت والتحايلات الفكرية غير جديرة برسالة الإسلام الحقة والشفافة.

من أجل وبإسم هذه المصادر النصية  والتعاليم الإسلامية والضمير المسلم هناك قرارت يتحتم إتخاذها.

 

رأي سواد جمهور العلماء:

 

يدرك جل العلماء في العالم الإسلامي في الماضي والحاضر والمنتمين لكل التيارات الفكرية وجود مصادر نصية تتحدث عن العقوبة الجسدية (القرأن والسنة) ورجم الزناة من الرجال والنساء (السنة) وقانون عقوبات (القرأن والسنة). لم يكن هناك ثمة خلاف بين جمهور العلماء حيال المحتوي الموضوعي للنصوص.

 

أما التباينات بين العلماء وبين غيرهم من التيارات الأخري (الأصوليين والإصلاحيين والحرفيين) يستند بالإساس علي التفسيرات الخاصة بعدد معين من هذه النصوص وشروط تطبيق العقوبات المتعلقة بقانون العقوبات الإسلامية بالإضافة لمدي توافقها مع طبيعة المرحلة الراهنة (الإطر السياسية والإجتماعية والإدلاء بالشهادة في المحاكم و ماهية الإنتهاكات الحاصلة)

 

إن الأغلبية من جمهور العلماء  عبر التاريخ وحتي اليوم يجمعون علي رأي واحد وهو أن هذه العقوبات هي بمجملها وعلي عمومها إسلامية ولكنهم يرون أيضا بأن  « الشروط اللازم توافرها » لتطبيق هذه العقوبات هي من ضرب المستحيل عمليا لأن تجتمع في أن واحد (فيما يتعلق بعقوبة الزنا علي سبيل المثال). وهم بالتالي « تقريبا غير قابلين للتطبيق ».  يمكن إذن النظر للحدود بإعتبارها « موانع » الهدف منها هو تنبيه ضمير الفرد المؤمن لخطورة الفعل الذي قد يؤدي إلي هذه العقوبة.

 

ومن يقرأ كتب العلماء ويستمع إلي خطبهم ومحاضراتهم ويجول في كل أنحاء العالم الإسلامي أو يتعاطي مع الجاليات الإسلامية في الغرب سوف يستمع بالضروة وبشكل متنوع إلي الصيغة التالية من المؤسسات الدينية وهي  » تقريبا مستحيلة « . هذه الصيغة تسمح لغالبية العلماء والمسلمون بتجنب السؤال الأساسي من دون ترك إنطباع بالإستهانة بالمصادر النصية الإسلامية. هناك إتجاه أخر يتراوح مابين  تجنب الموضوع كلية أو إلتزام الصمت.

ماذا يحدث علي أرض الواقع؟

 

كان يحدو المرء الأمل بأن صيغة « تقريبا مستحيلة » ستفهم بإعتبارها ضامن لحماية النساء والرجال من المعاملة الغير عادلة والتي تتسم بقهر شديد. كان هناك بصيص أمل بأن الشروط المنصوص عليها سيتم النظر إليها بإعتبارها عامل لدعم مبدأ المساواة أمام القانون وبسط  مبدأ العدل بين البشر من قبل الحكومات المتعاقبة والمشرعين الذين يتحدثون بإسم الإسلام. ولكن كل ذلك كان أبعد مايكون عن الحقيقة.

 

أتضح أنه ثمة واقع كئيب يرزح تحت وطأة خطاب إسلامي يختصر واقع الأمور.  في هذا الواقع يعاقب الرجال والنساء ويضربون ويرجمون ويعدمون يإسم الحدود. هذا يحدث في ظل غياب تام للعاطفة التي يظهرها الضمير المسلم في كل أنحاء العالم. وكأن المرء لا يعرف أن ثمة خيانة ترتكب بحق التعاليم الإسلامية. وتصل هذه الممارسات الغير عادلة لذروتها حينما يقتصر التطبيق علي النساء دون الرجال والفقراء دون الأغنياء والضحايا دون الحكام القاهرين. بالإضافة لذلك فإن مئات السجناء  محرومون من الوسائل القانونية التي تمكنهم من الدفاع عن أنفسهم.  وتطبق عقوبة الإعدام بحق النساء والرجال والقاصرين  (السجناء السياسيين, المهربين والمذنبين) حتي من دون أن يمكن هؤلاء المتهمين من الإتصال بمحامين. وبعد قبولنا بالمناطق الرمادية في علاقتنا مع المصادر النصية, فنحن نرتضي قبول واقع يمثل خيانة لرسالة الإسلام التي تدعو للعدل.

 

إن المجتمع الدولي عليه مسئولية مساوية وواضحة لأن ينخرط في النقاش حول موضوع الحدود في العالم الإسلامي. إن الإدانات تتم حتي الأن بشكل إنتقائي  وتسعي بالأساس لحماية وخدمة مصالح إقتصادية وجيوإستراتيجية. وبالتالي إذا كانت هناك دولة فقيرة في أسيا أو إفريقية تسعي لتطبيق الحدود أو الشريعة  فإنها سوف تواجه حملات عالمية كما رأينا مؤخرا. بينما الأمر ليس كذلك بالنسبة للدول الغنية والممالك النفطية وتلك الدول التي تصنف في خانة « الحلفاء » حيث تأتي الإدانات حيال الأخيرة بشكل خجول وربما لا تأتي علي الإطلاق علي الرغم من التطبيق الحاصل بإستمرار لهذه العقوبات والذي يستهدف الفقراء والفئات المجتمعية  الأكثر ضعفا. وبالتالي تكون قوة الإدانة بحسب المصالح التي تتعرض للخطر وهذا أمر أخر لا يتسم بالعدالة.

 

 

عاطفة الشعوب مقابل خوف العلماء

 

 

ثمة رؤية ما تفرض نفسها علي أولئك الذين يجولون بأنحاء العالم الإسلامي ويتعاطون مع المسلمين ذلك أن السكان يظهرون ولاء متزايد للإسلام ولتعاليمه . وهذا الواقع رغم كونه إيجابي بحد ذاته إلا أنه يثير القلق بل وهو خطر أيضا  حينما يكون الولاء ذي صبغة عاطفية ولا تسانده معرفة أو فهم حقيقي بالنصوص وبدون النظرة النقدية للتفسيرات الفقيهة المختلفة ولضرورة التأطير ولماهية الشروط المطلوبة أو حتي لحماية حقوق الأفراد ونشر العدل.

 وفيما يتعلق بمسألة الحدود يري المرء أحيانا أن التأييد الشعبي  يسعي إلي تطبيق فوري وحرفي لأن ذلك من شأنه أن يكون ضمانة للتأكيد علي  الهوية « الإسلامية »  للمجتمع. في واقع الأمر ليس من النادر سماع المسلمين (متعلمين أو غير متعلمين أو حتي الأشد فقرا بينهم)   يطالبون  بتطبيق صارم لقانون العقوبات  (وهم يقصدون بذلك الشريعة) التي  غالبا ما سيكونون هم  أولي ضحاياها.

 

حينما يتم  تدارس هذا الأمر هناك منطقان يحكمان مزاعم كتلك:

 

أولا: إن التطبيق الفوري والحرفي للحدود بالمعني القانوني والإجتماعي سوف يمنح الإسلام  مرجعية واضحة. إن التشريع بقوته يترك الإنطباع  بالإخلاص للوصايا القرأنية التي تتطلب إحترام صارم للنص. علي المستوي الشعبي يمكن للمرء أن يستنتج  بالنظر إلي الدول الإفريقية والأسيوية والعربية والغربية بأن قسوة وصرامة التطبيق بحد ذاته يعطي بعدا إسلاميا للعقلية الجمعية.

 

ثانيا: إن معارضة الغرب  وإدانته لقضية تطبيق الحدود سوف تؤدي لرد فعل معاكس حيث ستغذي  الشعور الشعبي بالولاء للتعاليم الإسلامية وهو منطق لا يخلو من تبسيط وتناقض في أن معا. ففي نظر الجماهير المسلمة تكون  المعارضة الشرسة الأتية من الغرب هي دليل كاف  علي الهوية الإسلامية الاصيلة للتطبيق الحرفي للحدود. بل أن البعض قد يحاول إقناع انفسهم بالتأكيد علي أن الغرب قد فقد مرجعياته الأخلاقية وأصبح  في نظرهم  قد بلغ من الإنحلال مبلغا  أنهم يعتبرون أن صرامة قانون العقوبات الإسلامي الذي يعاقب  السلوكيات الغير أخلاقية يظل في نظرهم البديل الوحيد والأمثل « للإنحطاط  الأخلاقي الذي يعانيه الغرب. »

 

إن هذا المنطق الأحادي لا يخلو من خطورة لأنه يزعم لا بل ويصبغ الصفة الإسلامية ويسبغ الشرعية علي عقوبة صارمة حيال سلوكيات بعينها. هذه العقوبة لا تشجع أو يحمي أو تسعي لتطبيق العدل.  واللافت اليوم أن الجاليات الإسلامية أو الشعوب المسلمة يكتفون بهذا النوع من الشرعية لمساندة حكومة أو حزب سياسي ما يدعو لتطبيق الشريعة لجهة كونها تطبيقا حرفيا وفوريا للعقوبات الجسدية  والرجم وعقوبة الحكم بالإعدام.

 

وحينما تكون عواطف الشعوب هي المسيطرة علي الموقف فإن إحدي علامات السعي للرد  يتمثل في محاولة الرد علي الشعور بالإحباط والمذلة وذلك بالتأكيد علي هوية تدرك نفسها بأنها إسلامية « ومعادية للغرب ». وهي هوية غير مستندة علي فهم واضح لأهداف المقاصد والتعاليم الإسلامية  أو التفسيرات المختلفة والشروط المتعلقة بعملية تطبيق الحدود. وفي مواجهة الإنفعالات الشعبية يلتزم  علماء الدين والفقهاء الحذر خوفا من أن يفقدوا صدقيتهم في نظر هذه الجماهير. ويمكن ملاحظة شيئا من الضغط النفسي الذي تمارسه ردة الفعل الشعبية تلك حيال الكيان الشرعي والقانوني الذي يمثله جمهور العلماء والذي من المفترض أن يتمتع بإستقلالية تمكنه من توجيه الجماهير وتقديم البدائل.

اليوم ثمة ظاهرة مناقضة تكشف عن نفسها ذلك أن سواد جمهور العلماء  باتوا يخشون من مواجهة هذه المزاعم الشعبية والتي لا تخلو من تبسيط وتفتقد للمعايير المعرفية وبالتالي صاروا هم أيضا عاطفيين وأحاديي التفكير وذلك لخوفهم من فقدان مكانتهم وأن يوصموا بكونهم قدموا تنازلات كثيرة ولم يكونوا حازمين بشكل كاف ومتغربنيين أو ليسوا مسلمين بما فيه الكفاية.

 

إن العلماء منوط بهم أن يكونوا الضامنين لقراءة عميقة للنص وأن يظلوا علي ولائهم لأهداف بسط العدل والمساواة  وكذا أجدر بهم أن يقدموا تحليل نقدي للشروط والأطر الإجتماعية. غير أنهم قنعوا بقبول التطبيق الحرفي (التطبيق الفوري من دون توفير إطار) أو منطق أحادي  (غرب أقل يعني إسلام أكثر). يحدث ذلك بدون السعي لإيجاد حلول للممارسات الظالمة التي تمارس بحق النساء والفقراء تحت مسمي « هي مستحيلة التطبيق »

 

وضع راهن مستحيل: ماهي مسئوليتنا

 

إن العالم الإسلامي يمر بأزمة حادة  أسبابها متعددة وأحيانا متناقضة. لقد أصبح  النظام السياسي العربي مهترئ ويتم إستخدام الإسلام بشكل روتيني  بينما الرأي العام يتعرض للتخويف والإسكات وتقوده عاطفة عمياء لدرجة  أنه يمكن أن ينساق وراء  فكرة التطبيق الغير عادل للشريعة الإسلامية والحدود.

 

أما فيما يخص السؤال الديني الأكثر تحديدا يمكن ملاحظة أن ثمة أزمة سلطة مصحوبة بغياب في الداخل الإسلامي للنقاش بين العلماء  ومدارس الفكر المختلفة  وداخل المجتمعات والجاليات الإسلامية نفسها. ويصبح جليا أن هناك أراء متنوعة  مقبولة داخل الإسلام يتم تداولها اليوم  داخل إطار يتسم بالفوضي  وهو يتعايش مع ثلة من الأراء الشرعية الإسلامية المتناقضة مع بعضها البعض والتي يحاول كل منها أن يدعي أنه يتمتع بالصبغة الإسلامية أكثر من الأخر.  وفي مواجهة هذه الفوضي التشريعية فإن عموم المسلمين يكتفون  ب « صبغة الولاء للإسلام » تلك أكثر من إهتمامهم بالأراء المبنية علي المعرفة الحقة والفهم الذي يحكم المبادئ والأحكام الإسلامية.

 

دعونا نستحضر الواقع كما هو. يوجد اليوم  أزمة ذات أبعاد أربع تتمثل في النظم السياسية المنغلقة والقمعية ثم هناك المؤسسات الدينية التي تروج لمطالبات متناقضة مع بعضها البعض ومعدلات أمية عالية بين شعوب  تسعي لأن تكون مندمجة بالتعاليم الإسلامية من خلال حماسة دينية وعاطفية وليس من خلال فكر حقيقي.

إن حقائق كتلك لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تشرعن صمتنا. فنحن متورطون ومذنبون حينما نرضي بأن نعرض الرجال والنساء للعقوبة أوللرجم أو الإعدام بإسم تطبيق أصولي للمصادر النصية.

 

إن المسئولية تقع علي عاتق المسلمين في كل أنحاء  العالم . ذلك أن الأمر يعود لهم بالأساس  لكي يرتفعوا لمستوي التحدي للبقاء ملتزمين برسالة الإسلام  في الفترة الراهنة . إن الأمر يعود لهم لكي يدينوا  النواقص والخيانة التي تتم من قبل بعض المؤسسات أو الأفراد المسلمين لمقاصد الإسلام الحقة. يخبرنا أحد الأحاديث النبوية عن أبو الزبير عن جابر رضي الله عنه قال رسول الله (صلعم) « لينصر الرجل أخاه ظالما أو مظلوما, إن كان ظالما فلينهه فإنه له نصر وإن كان مظلوما فلينصره » رواه الشيخان والترمذي

من هذا المنطلق تكون هناك مسئولية منوطة بكل عالم لديه ضمير وكل أمرأة ورجل أينما كانوا لأن يرفعوا أصواتهم بالإجتجاج.

إن بعض المسلمين الغربيين عادة ما يختبئون خلف طروحات من نوع أن تطبيق الحدود أو الشريعة ليس واجبا عليهم بماأنهم في موقع « الأقلية ».  ثمة صمت ثقيل الوطء يثير القلق حيال هذه المسألة. أو أن يتخذوا موقفا يتمثل في الإدانة من بعيد بدون بذل جهد بسيط لتطوير العقليات. إن أولئك المسلمون الذين يعيشون في فضاءات من الحرية السياسية  ويستطيعون الحصول علي التعليم والمعرفة عليهم -بإسم التعاليم والمقاصد الإسلامية- عليهم مسئولية هائلة لمحاولة إصلاح الأوضاع الحالية وذلك بالعمل علي فتح باب النقاش حول تلك المسألة وأن يدينوا ويسعوا لوضع حد لكل الممارسات الظالمة التي ترتكب بإسم الإسلام.

 

 

دعوة وأسئلة   

 

إذا أخذنا في الإعتبار كل هذه العوامل فإننا اليوم نسعي لإطلاق دعوة عالمية من أجل تعليق فوري لمسألة العقوبات الجسدية وعقوبة الرجم والحكم بالإعدام في الدول ذات الأغلبية المسلمة. مع الأخذ في الإعتبار أن الأراء الفقهية  ليست واضحة أوحتي  تحظي بإجماع (حيث لا توجد أغلبية واضحة) حينما يتعلق الأمر بفهم النصوص وتطبيق الحدود. بالإضافة لذلك فإن النظم السياسية والحال التي أضحي عليها المجتمعات ذات الأغلبية المسلمة لا توفر ضمانات لمعاملة تتصف بالعدالة والمساواة امام القضاء. إستنتاجا من ذلك نري بأن هناك مسئولية أخلاقية ودينية لأن نطالب بوقف تطبيق الحدود التي يتم إلحاقها بالشريعة الإسلامية بشكل مصطنع.

تصاحب هذه الدعوة عدد من الأسئلة الأساسية التي ستواجه المؤسسات والسلطات الدينية الإسلامية في كل أنحاء العالم  مهما تكن تقاليدهم (سنة أو شيعة) أو أيا كانت المدرسة الفكرية التي ينتمون لها  (الأحناف, المالكيين أو الجعفريين)  وأيا كانت تياراتهم (سلفيين أو إصلاحيين) :

 

أولا: ماهي النصوص ( بالإضافة لدرجة إعتمادها أو صحتها ) التي تجعل الإشارة للعقوبة الجسدية والرجم وحكم الإعدام الموجودة في أهم أركان مصادرالنصوص الإسلامية  يمكن أن تحصر في ما يسميه المتخصصون الحدود؟ وماهي الهوامش أو الحواشي للتفسيرات الممكنة وعلي أي نقاط يمكن التدليل علي مواضع الإختلاف في تاريخ القانون الإسلامي حتي الفترة المعاصرة؟

 

ثانيا: ماهي الشروط  المنصوص عليها بالنسبة لكل من هذه العقوبات في المصادر ذاتها وماهو إجماع العلماء أو بالعلماء الفرادي خلال فترات تاريخ القانون والفقه  الإسلامي ؟ أين هي الإختلافات حيال هذه الشروط  وماهو طبيعة « الظروف المخففة » التي يمكن الحديث بتفصيل من قبل السلطات الدينية عبر التاريخ او بين مدارس الفكر المختلفة؟

 

ثالثا: كان العلماء دائما يضعون في أعتبارهم الإطار والواقع السياسي والإجتماعي  كأحد الشروط المطلوبة لتطبيق الحدود. وهذه المسألة  من الأهمية بماكان لدرجة أنها تتطلب معاملة خاصة  ومشاركة في النقاش من قبل المفكرين سيما أولئك المتخصصين في العلوم الإنسانية. وبالتالي فمن المهم توجيه السؤال التالي: ماهو الواقع والإطار الإجتماعي والسياسي الذي نسعي لتطبيق الحدود فيه؟ وماهي الشروط المطلوبة فيما يتعلق بالنظم السياسية وتطبيق التشريعات العامة مثل حرية التعبير والمساواة أمام القانون والتعليم الشعبي  وحالة الفقر في المجتمع وعملية التهميش الإجتماعي؟ وماهي في هذا المجال نقاط الإختلاف بين مدارس الفقه المختلفة وبين العلماء وعلي أي أرضية تستند هذه الأختلافات؟

 

إن تدارس هذه الأسئلة هو أمر من شأنه توضيح شروط النقاش  فيما يتعلق بالمساحات التي تتيحها النصوص للتفسير والتأويل مع الأخذ في الإعتبار في ذات الوقت حالة المجتمعات المعاصرة وتطورها. هذا التفكير الذي يتم داخل الجماعة الإسلامية يتطلب من البداية  فهم مضاعف للنصوص والأطر وذلك بالألتزام بمقاصد رسالة الإسلام. وإجماعا هذا الأمر لابد وأن يتيح لنا إجابة سؤال يتعلق بمدي قابلية التطبيق ووفقا لأي طريقة ومنهاج وما لم يعد ممكنا تطبيقه أخذين في الإعتبار أن  الشروط الواجب توافرها هي ضرب من ضروب المستحيل لأن يتم تحقيقها كلها في أن واحد وكذلك عملية تطوير المجتمعات التي هي في عملية حراك يبعدها  عن النموذج الذي يجب أن تحتذيه.

 

هذا العمل  يتطلب من الداخل الإسلامي الوقت والحزم  و إقامة  فضاءات من الحوار والنقاش وذلك علي المستوي القومي والعالمي وبين العلماء والمفكرين المسلمين وداخل الجاليات الإسلامية بما أن النقاش لن يدور حول العلاقة مع النصوص ولكن بشكل متساو علاقة النص بالإطار الذي تطبق فيه. وليس ثمة تطبيق للعقوبات التي تجيز المقاربات القانونية والممارسات الغير عادلة كما هو حادث اليوم. إن عملين التجميد تلك من شأنها أن تفرض وتتيح نقاشا هادئا  وبدون أن يستخدم الأمر كحجة لإحتكار الإسلام. إن الممارسات الغير عادلة التي تم تقنينها  بإسم الإسلام لابد حتما أن تنتهي علي الفور.

 

بين الحرف والمقاصد: (الإخلاص)

 

قد يفسر البعض هذه الدعوة علي أنها محاولة تحريضية للتقليل من شأن المصادر النصية في الإسلام معتقدين بأن مجرد طلب  تعليق العمل بالحدود هو خطوة ضد النصوص القطعية للقرأن والسنة. ولكن العكس هو الصحيح ذلك أن كل النصوص الفقيهية يجب قراءتها في ضوء المقاصد التي شرعت بالأساس من  أجلها. ومن بين الأمور الضرورية نجد أن أحد الأمور المنصوص عليها هو أن الحفاظ علي كرامة الفرد (النفس البشرية) وبسط العدل هي  الأمورالأساسية

 

وبالتالي فإن التطبيق الحرفي للحدود والذي لا يراعي الأطر الإجتماعية والسياسية التي سيتم فيها التطبيق -وكذلك بدون إبداء أي إحترام للشروط  المعلنة والصارمة- يبدو وكأنه أمرا جوهريا من التعاليم الإسلامية  بينما هو في حقيقة الأمر خيانة لهذه التعاليم لأنه يؤدي بالنهاية لحدوث مظلمة.

وقد قام الخليفة عمر بن الخطاب(رضي الله عنه) بإيقاف العمل بحد السرقة علي السارقين حينما علق العقوبات المفروضة بحقهم خلال أوقات المجاعة وذلك رغم كون النص القرأني قاطع شديد الوضوح حول هذه العقوبة ولكن الحال الذي كانت عليه المجتمع أنذاك قضت بأنه سيكون من الظلم أن تطبق  العقوبة بشكل حرفي لأن العقوبة في نهاية الأمر كانت ستطال الفقراء الذين إذا قاموا بالسرقة فسيكون لغرض واحد فقط هو التحايل علي فقر مدقع.

 

ولذلك بإسم مبدأ  العدل المطلق  الذي تقره رسالة الإسلام العالمية,  قرر عمر بن الخطاب(رضي الله عنه) وقف تطبيق هذا النص لأن إستمرار التفسير الحرفي للنص كان سيعني عدم الولاء لقيمة عليا من قيم الإسلام ألا وهي العدل. وبإسم الإسلام ومن خلال تفسير النصوص قام هو بتعليق تطبيق أحد هذه النصوص. وبالتالي فإن الطلب بتعليق  العمل بالحدود هو أمر له سابقة ذات أهمية قصوي.

 

إن التفكير والإصلاح المطلوب داخل المجتعات الإسلامية لن يحدث إلا بإرادة هذه المجتعات. وإن الأمر يقع علي عاتق المسلمين لأن يتولوا المسئولية ويقوموا بفتح دائرة النقاش من خلال تدشين حوار بين قوي المجتمع المختلفة وفي الوقت ذاته يعبروا عن رفضهم للممارسات الغير عادلة التي تم تقننيها وترتكب  بإسم الإسلام. إن عملية حراك تبدأ من المسلمين أنفسهم هي أمر أساسي.

 

غير أن هذا لا يعني أن يحرم المفكرين والمواطنين الغير مسلمين من حق طرح تساؤلات. علي العكس تماما علي جميع الأطراف أن يسعوا للإستماع لوجهة نظر الأخر  ولإطرهم المرجعية ومنطق طروحاتهم وكذا طموحاتهم. بالنسبة للمسلمين فإن كل التساؤلات مرحب بها  سواء كانت من ذويهم المسلمين أو من رجال ونساء لا يشاركونهم بالضروة إيمانهم. وعليهم أن يستفيدوا من هذه التساؤلات بإعتبارها تمدهم ب الأفكار والأليات.

هكذا يمكن أن نظل مخلصين لمبدأ العدل الذي أسس له الإسلام وفي ذات الوقت يؤخذ بالإعتبار حاجات المرحلة الراهنة.

 

الخاتمة:

 

هذه الدعوة لتجميد العمل بمبدأ  العقوبات الجسدية وعقوبة الرجم وحكم الإعدام هي دعوة ملحة علي عدة جبهات. نحن نوصفها بإعتبارها دعوة لضمير كل فرد لكي يدرك هو-هي بأنه ثمة  إستخدام لتعاليم الإسلام بما يؤدي لإهانة وإخضاع النساء والرجال في بعض المجتمعات ذات الأغلبية المسلمة وفي ظل صمت جماعي و فوضي أراء فقهية وهذا الإدراك يتطلب الأتي:

 

أولا: تعبئة عموم المسلمين في كل أنحاء العالم لأن يطلبوا من حكوماتهم تعليق تطبيق  الحدود وفتح باب النقاش النقدي والجاد والعقلاني داخل المجتمعات الإسلامية بين العلماء والمفكرين والقادة وعموم المسلمين.

 

ثانيا: مساءلة العلماء حتي يجرأوا علي مكاشفة مجتمعاتهم بالممارسات الغير عادلة التي ترتكب بإسم الإسلام وتفعيله كأداة في مجال الحدود .فمن أجل البقاء مخلصين للنص الإسلامي لابد من تعليق فوري ل مبدأ العقوبات الجسدية  تأسيا بالقدوة التي أرساها الخليفة عمر بن الخطاب (رضي الله عنه).

 

ثالثا: نشر المعرفة بين الشعوب الإسلامية حتي لا ينخدعوا بالمظهرية والفكر الحرفي. إن تطبيق الإجراءات القمعية  والعقوبات لن تجعل المجتمع أكثر إيمانا  بالتعاليم الإسلامية وإنما هي بالأحري القدرة علي الترويج لمبدأ العدل الإجتماعي  والحفاظ  علي الأفراد رجال كانوا أو نساء فقراء أو أغنياء. هذه الخطوة هي التي تحدد صدقية الولاء للنص الإسلامي.

إن القاعدة في الإسلام هي بأن القانون هو الذي يحمي حقوق الفرد وليس العقوبة التي يتم إقرارها إلا إذا كانت إستثناءا مقيد بشروط عدة.

 

إن حركة الإصلاح من الداخل التي يتولاها المسلمون أنفسهم وبإسم رسالة والمصادر النصية في الإسلام لا يجب أن تغض الطرف عن الإستماع لما يقوله الأخرون وكذلك الإهتمام بالتساؤلات التي تدور في عقول غير المسلمين حيال الإسلام. وهذا لا يعني الإنحناء أمام الإستجابات الأتية من « الأخر » « الغرب » وإنما من أجل أن تظل امام نفسها تدرك أن إيمانها بناء.

 

نحن نناشد كل الذين يلتزمون بهذه الدعوة أن يصطفوا معنا  وأن يرفعوا أصواتهم مطالبين بالتعليق الفوري لتطبيق الحدود في العالم الإسلامي حتي يتم إرساء أسس لنقاش جاد حول هذا الموضوع. نقول بإسم الإسلام وبإسم نصوصه ورسالة العدل لا يمكننا الإستمرار بقبول تعرض النساء والرجال للعقوبة والموت بينما نظل ملتزمين الصمت ونكون شركاء في عملية تتسم بالخسة.

 

من الضروري بماكان أن يرفض المسلمون في كل أنحاء العالم التشريع الأصولي المصدر لتعاليم دينهم وأن يستوعبوا جوهر الرسالة الإسلامية التي تحضهم علي الروحانية وتتطلب المعرفة والعدل وإحترام التعددية.

 

لن يصلح حال المجتمعات عبر الوسائل القمعية والعقوبات  وإنما من خلال الإنخراط في عملية التأسيس لحكم القانون وتكوين مجتمع أهلي  وإحترام الإرادة الشعبية وكذلك التشريع العادل الذي يوفر الضمانة للمساواة بين الرجال والنساء والفقراء والأغنياء أمام القانون.


أنه من الضروري أن ندشن لحركة ديمقراطية تخرج الجماهير من الهوس بما يعاقب عليه القانون إلي مايجب أن يحميه القانون وهو بالأساس ضميرهم وحريتهم وحقوقهم وكرامتهم.

طارق رمضان

جنيف 18 مارس 2005

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا