بقلم: د.طارق رمضان – ترجمة: فضل الله كْسِكْس
ثمة إحساس بأننا لن ننعتق. فمنذ سنوات، وفي كل شهر تقريباً، يتم إعلامنا في الولايات المتحدة وأوروبا، في الشرق الأوسط
كما في إفريقيا، بأنه تم التعرف على شبكات متطرفة وإرهابية أو تم تفكيكها. وتشارك وسائل الإعلام في ذلك، فيكون توقيف المتهمين غاية في الإثارة ومخلفاً لأثر رمزي حاسم. لم ننعتق بعد من هذا الأمر، إذ يسود الإحساس بالخطر، ولا زال المتطرفون نشطين، ورغم موت أسامة بن لادن هناك خلايا إرهابية مجنَّدة ومتأهبة للهجوم على أهداف لا تقل رمزية: أماكن عمومية، مدارس، مؤسسات دينية، وأحياناً يهودية بوجه خاص. إن « الإرهاب الإسلامي » يسكن حقبتنا وعلى ما يبدو لوقت طويل.
لقد قلنا دائما ما يلزم دون أن نَكَلَّ من تكراره: تلك الفصائل لا تمثل في شيء قيم الإسلام، وأفعالها تنافي بكل جلاء مبادئه، ومن اللازم إدانتها. إن قتل الأبرياء، والهجوم على المدنيين وعلى المؤسسات العمومية لا يمكن تبريره إطلاقاً. عندما يكون انتقاد سياسة إسرائيل مشروعاً وعادلاً، مثلما هو عليه الشأن بخصوص أي دولة، فإنه لا يمكن أن نبرّر ـــ بأي شكل من الأشكال ـــ معاداة السامية، هذه المعاداة المنافية بالـمِثل لمبادئ الإسلام. في الواقع، هناك إجماع قائم بين علماء المسلمين المعترف بهم (سنة وشيعة) وبين عامة المؤمنين (في أغلبيتهم العظمى) على الإدانة التامة لعنف المتطرفين وعمليات السلفيين الجهاديين، أينما وُجدوا. يتعين على العالم أن يفهم ذلك، والمسلمون لم يتوفقوا عن تكراره، حتى تكون الأمور واضحة.
على الصعيد الدولي، نجد لدى السلفيين الجهاديين والمتطرفين، ومنذ عهد طويل، تموقفاتٍ سياسية خطيرة، كان من أولى ضحاياها ــ بعد الانتحاريين ـــ الشعوب المسلمة بأسرها. إن التطرف والإرهاب لا يمس الغرب وحده ولكنه يمس أيضاً آسيا والشرق الأوسط وإفريقيا بشكل أكبر. هناك حاليا حركات ـــ متموضعة بين النصية المحافظة والجهادية ــ تستقر في كلٍّ من مصر وسوريا، وليبيا وشمال مالي، بينما هي متواجدة ونشطة باستمرار في العراق أو في أفغانسان. من اللازم التصدي لِرُؤَى هذه الجماعات وخصوصاً الحد من قدرتها على إلحاق الأذى. لقد أبانت هذه الحركات عن قدراتها في التعبئة الشعبوية خلال وقت الأزمة، على امتداد السنوات الخمسة عشرة الفارطة، وبوتيرة متصاعدة منذ خمس سنوات: إنها ظاهرة محددة الوقت وهامشية، ولكن عواقب عملياتها الصادمة والقاتلة على إدراكات وتخيلات أعداد كبيرة من الناس لا يمكن الاستهانة بها.
ينبغي أن نسجل كذلك أن الشباب الذين ينضمُّون إلى هذه الجماعات المتطرفة يعانون، على نحو جلي، نقصاً كبيراً في المعرفة الدينية، وهم في الغالب غير مؤهلين سياسياً (خصوصا عندما لا يستطيعون حل مشاكل الوعي الذاتي، حين يرغبون في القطيعة مع حياة الانفلات الماضية أو مع الانحراف). يمكن لهم أن يصيروا ضحايا لأي خطاب شعبوي ومتطرف ينبثق من أوساط جهادية، كما يمكنهم أن يصيروا أدوات بأيدي أجهزة استخبارات دولية مضللة ومبيتة لنوايا شريرة. هناك الكثير من الوقائع التي كشفت لعباً مشبوهاً لأجهزة استخباراتية استطاعت- بدءاً من باكستان إلى الولايات المتحدة، ومروراً بالعراق وليبيا ولبنان وإسرائيل ومصر وسوريا وإنجلترا وألمانيا وفرنسا- أن تخترق الفصائل ويكون لها عناصر اتصال ومخبرين بل وحتى محرضين. أحياناً، تكمن خلف صدق العاطفة الدينية والسذاجة السياسية لهؤلاء الشباب المتطرف سُلَط دينية أو سياسية، أو بالإضافة إلى ذلك أجهزة سرية دولية، لا تملك أي عاطفة دينية صادقة، فضلاً عن كونها تُبدي ميكيافيلية سياسية واضحة وفعالة. تعد هذه الإيديولوجية المتطرفة والمنظمات التي تدعمها خطيرة من منظورات متعددة، ويلزم أن تكون إدانتها حازمة بالإضافة إلى تحليل دقيق للأسباب، للفاعلين ولمساوئها الخفية. ويلزم أن يتحقق ذلك بدون سذاجة.
يلزم كذلك أن نضيف إلى هذا التحليل الروابط الاستراتيجية بين تواجد هذه الجماعات في الغرب وتواجدها، في الوقت نفسه، في البلدان ذات الأغلبية المسلمة. إنه لمن الصعوبة بمكان مواجهة الإرهاب والخلايا التي تنشأ بشكل غير رسمي تقريباً ومن غير أن يكون بينها أي تواصل عبر العالم. لقد لاحظنا ذلك في ألمانيا، وفي الولايات المتحدة، وفي إنجلترا كما في فرنسا أوغيرها من الدول. بصرف النظر عن الأعمال الإرهابية التي تليها ردود فعل سياسية أو عسكرية، غالباً ما تصدر فوراً عن الدول المتضررة (مثل الولايات المتحدة في أفغانستان ثم في العراق بعد 11سبتمبر 2001)، يبقى أن العمليات الموجهة ضد هذه الخلايا في الغرب، والتي ترافقها تغطية إعلامية مكثفة، لا ينبغي فصلها عن السياسات الخارجية للدول الغربية. هكذا شكل الإرهاب مبرراً لعمليات مراقبة متنامية في الغرب ذاته، ولعمليات عسكرية خارجية، بينما كان الرأي العام مهيأ نفسياً لتقبل ذلك (بما أن خطر الجهاديين تم استشعاره داخل أرض الوطن نفسها). من غير الـمُمْتَنِع التفكير بأن فرنسا ــ التي أعلنت على لسان رئيسها ووزيره الأول أنها ستحارب التطرف الإسلامي أينما استدعى الأمر ذلك ـــ ستبرر قريباً تدخلاً أكبر خارج حدودها الترابية، وخاصة في شمال مالي، بما أنها قد تضررت من هذا الخطر داخل أراضيها (ولا زال هناك رهائن فرنسيون محتجزون). تملك المنطقة أهمية استراتيجية، ويعادل احتياطها من البترول- الذي اكتشف مؤخراً -احتياطي ليبيا من حيث الأهمية إن لم يفقه. من المفيد ان نتذكر هذا حتى لا نضفي صبغة مثالية على مسعى فرنسا.
بغض النظر عن هذه الاعتبارات، من المهم أن نتبين المسؤوليات ونرفض الشفقة على النفس على منوال من يشعر بأنه ضحية. نكرر أنه يتوجب فعلا على المسلمين ـــ الممثلين الدينيين، الزعامات أو عامة المؤمنين ـــ أخذ الكلمة وإدانة ما يقترفه المتطرفون باسمهم. وبالمثل، يتعين على السياسة ووسائل الإعلام توخي الحذر الدائم من خلال تجنب الخلط بين الأمور. ليس فقط بالإقرار في أوقات الأزمات أو التفجيرات بأن الجهاديين أو المتطرفين لا يمثلون كافة المسلمين… بل أيضا وخاصة بالحديث عن المسلمين بشكل مغاير وفي أوقات أخرى، غير أوقات الأزمات أو التفجيرات.
على صعيد آخر، أصبحت شيطنة المتطرفين من المسلمين، في الوقت الراهن، تبيح تقريباً فعل كل شيء عندما يتعلق الأمر بالتعامل مع الأفراد المشكوك فيهم. إذا كان من الطبيعي استنطاق المشتبه فيهم والتحذير من الأعمال الإرهابية، فليس من المشروع توقيف الأفراد على نحو وقائي دون احترام لحقهم في الدفاع. هناك اليوم أناس محتجزون في سجون إنجليزية، أو ألمانية، أو فرنسية، أو كندية، أو أمريكية دون أن يعرفوا التهمة الموجهة إليهم ودون حكم قضائي. إنهم يجدون أنفسهم رهن وضعية قانونية غير محددة حيث يسمح تقريباً بفعل أي شيء (في حقهم) باسم « الخطر الإرهابي ». داخل الدول الديمقراطية التي تحترم نفسها، لا يجب فقط أن نرفض الخلط بين الجهاديين والمسلمين، بل يجب كذلك معاملة الجهاديين وفق قوانين دولة الحق. فمن حقهم أن يحظوا بمحام ومحاكمة، وأن يصدر فيهم حكم عادل. ذلك حق غير مشروط.
إن ما نعاينه اليوم في الغرب يشكل خطراً على الغرب نفسه، بحيث آل إلى فقدان روحه: تسليم المتهمين بشكل غير عادي وغير قانوني ، توقيفات بدون سبب أو تعليل، التعذيب بالوكالة، والسَجن الانفرادي (كما هو الشأن في الولايات المتحدة) أو المعاملات المهينة في أوروبا، كل هذه الممارسات لا تشرف القيم المعلن عنها من طرف الدول المدافعة عن حقوق الإنسان وكرامته. إن محاربتنا للإرهابيين – أو أفراداً يُحتمل أن يكونوا كذلك – لا تبرر تحولنا إلى وحوش وسط نظام قانوني حيث نعطي لأنفسنا الحق الاستثنائي في عدم احترام القواعد الأساسية..
إن مثال المعاملة داخل السجن يعد ناطقا وكاشفا على نحو كبير. فالتوجس من الإسلام بلغ مستوىً أصبح من المستحيل معه ممارسة الدين بصفاء داخل السجون. في كثير من السجون الغربية، في الولايات المتحدة، وفي كندا، ولكن بشكل ملحوظ أكثر في ألمانيا وانجلترا وفرنسا، تتسم معاملة السجناء المسلمين (الذين تصل نسبتهم أرقاماً قياسية: ما بين 20 إلى 50 في المائة من تعداد المسجونين) بالتمييز، وتكون أحيانا مهينة بشكل سافر. فأداء الصلاة ممنوع، والطعام غير لائق، والتأطير الديني غائب أو متروك لتدبير غير رسمي، وغير مؤهل، وخطير؛ تدبير يشرف عليه أفراد نصبوا أنفسهم شيوخاً. إذا لم نتخذ مسبقاً إجراءات ناجعة في ما يخص التأطير المتساوي والمتّزن للسجناء بمختلف دياناتهم فلا يحق لنا بالتالي أن نعاين بذعر التطرف. إنه خيار سياسي ، إذ في السجون تكبر الاختلافات بين الدول -بخصوص ما يسمى معاملة مواطنيها على قدم المساواة -: يمكننا الحديث بإسهاب عن المساواة في الحقوق والوضع القانوني، إلا أننا حين نلقي نظرة على الحياة اليومية والمعتقلات (التي هي بمثابة مجهر) نجد الاحتقار والعنصرية المبتذلة وكراهية الإسلام واقعاً ملموساً. ليس هناك تربة أحسن من هذا الوضع لخلق التطرف. هناك إصلاحات ملحة يتعين على جميع المواطنين الديمقراطيين أن يطالبوا بمراعاتها، كما ينبغي للدول أن تستجيب لها عاجلاً. فمعاملة السجناء تكشف الكثير عن واقع المجتمعات الديمقراطية، خلافاً لما تظهره الخطابات الظرفية.
إنه من الضروري أيضاً تزويد عامة الناس بمعلومات أدق حول الأحداث التي تتوالى وتتكرر. عندما ينتشر العنف ويبدو الخطر محدقاً بمجتمعاتنا ، من المشروع – بعد كل تفجير أو عملية مجهضة – أن ننتظر من السلطات بعض التوضيحات والعناصر الكاشفة. لا يتعلق الأمر بدعم أي هذيان مؤامراتي، إلا أن هناك حقوقاً لا ينبغي للمواطن التفريط فيها: تلك التي تتعلق بإعلامه وحمايته، وهي من الأمور الأساسية. كيف يُعقل أن لا تتوفر هيئات تحقيق مستقلة تنشر نتائج عملها، إثر التفجيرات التي حققت مسعاها للأسف؟ كيف يُعقل أن يُحرم المواطن، باسم مكافحة الإرهاب، من صورة واضحة لما يحدث، بينما يطبع التناقض الخطابات الرسمية للدول التي يبدو أنه لا أحد يستطيع مساءلتها، طالما أن الإرهابيين هم، على وجه التدقيق، « شيطانيون » للغاية؟ كيف يُعقل أن يُقتل الإرهابيون المعتقلون، على نحو شبه منهجي، أو يُحكم عليهم بالصمت، دون أن يكون بإمكاننا إطلاقاً سماع رواياتهم للوقائع؟ لم يتم إنهاء أي تحقيق، لم يتم الوصول إلى أي نتائج، ولم يقدم أي توضيح. هناك خطر يطفو دائماً على السطح … والكثير من الثقوب السوداء.
إن هذا لا يعني تغذية فكرة المؤامرة، وإنما نطالب بحقنا في المعلومة، وفي الأمن، بالإضافة إلى الدفاع عن حقوق المتهمين أو المشتبه فيهم. لقد أخطأنا كثيراً: هناك نساء ورجال أمضوا سنوات في السجن (في فرنسا وألمانيا وكندا وإيطاليا وإنجلترا كما في الولايات المتحدة)، قبل أن يُكتشف أنهم سُجنوا خطأ؛ والبعض منهم أطلق سراحه دون أن يحظى بأي اعتذار أو تعويض. أما في معتقل غوانتانامو فهناك أبرياء يُعرف أنهم أبرياء، لكنهم ما زالوا يقبعون في السجن كمجرمين، إذ تكفي شبهة الإرهاب لتجعل من الإنسان « إرهابياً » بالفعل ودون وجه حق، ويعامل على أساس أنه كذلك، سواء كان مذنباً أو غير مذنب. إن مجتمعاتنا وهي تتصدى للإرهاب، تشهد تحولاً يفضي إلى القضاء على الحريات والتطبيع مع سلوكات تحط من كرامة الإنسان. علينا أن لا ننسى أن الإرهاب سينتهي إلى إرسال صورة قاتمة من الغرب إلى الغرب نفسه: إن رفض مناقشة الأسباب، والاكتفاء بإدانة الأعمال الإرهابية والسماح للنفس بحق تجريد المتهمين من آدميتهم، وكذلك الشأن بالنسبة للمشكوك فيهم، يجعلنا نطبّع مع مواقف فكرية وممارسات عنصرية وازدرائية في جوهرها.
وحصيلة الأمر أن جميع التصريحات المناهضة لخلط الأمور لن تغير في الواقع شيئا. إن الخطابات العامة عن الإسلام والتي غالباً ما تكون سلبية، والإدانات المروعة للمتطرفين وللجهاديين والمعاملة اللاإنسانية للسجناء، تؤدي بالضرورة إلى تكوين صورة إشكالية للتواجد الإسلامي. وإذا أضفنا إلى ما سبق، الأحداث المثيرة للجدل والمتكررة (الرسوم الكاريكاتورية والفيديوهات، وغيرها) التي تؤدي إلى حدوث توترات، فإننا نرى تشكُّل الملامح الأولى لعدو جديدٍ في الداخل كما في الخارج. عندما يتعلق الأمر بالمسلمين فإن الإسلام يصبح العامل المفسر لكل شيء: عنف المدن، التهميش الاجتماعي والبطالة والشعور بالحرمان لدى الشعوب، والديكتاتورية، ومعارضة السياسة الإسرائيلية، وغير ذلك.
على حين أن التحليلات السياسية، والسوسيو-اقتصادية، والجيو استراتيجية، لا تؤخذ بعين الاعتبار. يسود عصرنا نزوع إلى أسلمة جميع المشاكل وإخراج قضايا الحكم والعدالة من نطاق السياسة. عندما يصبح الدين السبب التبسيطي الوحيد لكل شيء، ونتوقف عن التفكير في تعقيدات السياسية، فإننا نصب في الشعبوية التي تعتبر الآخر جوهراً يتحدد بخصائص أساسية ثابثة، وتجعله مسؤولاً عن كل شرّ بسبب وجوده ذاته: هذا هو تعريف العنصرية وسياسة الخوف. إن غرباً بالغ الثراء، إلا أنه خائف أكثر ما يكون الخوف، قد يسقط في الضياع ويفقد ذاته، بعيداً عن مبادئه، وقريباً جداً من شياطينه.