قراءة في كتاب: « البحث عن المعنى »: رحلة السعي نحو السكينة والسلام*
بقلم: نيجار عطا الله
إلى أي مدى تجعلنا أدياننا المختلفة وفلسفاتنا ومناهجنا الفكرية مختلفين؟ وهل يمكن أن نتجاوز ما يفرّقنا لنكتشف المشترك بيننا؟
ينطلق الدكتور طارق رمضان، الفيلسوف والعالم الجليل، في كتابه « البحث عن المعنى » (The Quest for Meaning) في رحلة للإجابة على هذين السؤالين واكتشاف الحقائق العامة المشتركة بيننا بغض النظر عن كيفية الوصول إليها. ويلجأ الدكتور رمضان إلى طريقة جريئة في مقاربة الدين، من النصرانية حتى البوذية، بين العلمانيين والدينيين، ليؤكد على أننا في حاجة ماسة إلى فلسفة جديدة للتعددية والتعايش السلمي.
ويستعرض الدكتور رمضان في كتابه مسألة الحب والاحترام والعقل والمنطق علاوة على بعض القضايا الأساسية مثل العلاقة بين الرجل والمرأة، واستخدام لفظ « الحضارة » ويرى أن هناك مجموعة من المعتقدات المشتركة بوجه عام في العديد من المناهج الفكرية.
وبعد قراءتي واستعراضي لكتاب الدكتور رمضان الموسوم باسم « الرسول، السيرة الروحية لمحمد » أو (Th Messenger, A Spiritual Biography of Muhammad) والذي اتسم بلغته البسيطة وأسلوبه الواضح، يأتي كتابه الجديد « البحث عن المعنى » مختلفاً نوعاً ما، إذ استغرق مني وقتا كثيراً في قراءته ومحاولة فهمه. وقد انطلق المؤلف في رحلة عبر دروب القلب والعقل والخيال.
لم تشهد حقبة زمنية هذا القدر من الحديث عن التنوع والتعددية كما هو الحال في وقتنا الحالي الذي نعيش فيه عصر العولمة والحداثة، ومع ذلك يبدو أننا وقعنا في شرك الهويات والاختلافات أكثر من أي فترة مضت. إن العالم اليوم أشبه بقرية صغيرة، هكذا يقولون، قرية من القرويين الذين لا يعلمون شيئاً عن بعضهم البعض. فلا يعلمون من هم ولا مع من يعيشون. وهذا الوضع يمكن أن يؤدي إلى صراعات مخيفة بدلاً من الاحتفاء الواثق بهذا الثراء والتنوع. وكان إدوارد سعيد يرى أن أمراً كهذا من شأنه أن يؤدي إلى صراع الجهل، بينما يرى طارق رمضان أنه يؤدي إلى « تضارب التصورات »[1].
إن البحث عن المعنى هو رحلة عبر الزمان في جميع أنحاء العالم، لكنها تنتهي بنا دوما عند أنفسنا. فكل الطرق تعود بنا مرة أخرى إلى أنفسنا. وفي مقدمة ابن خلدون، الذي جال فيها عبر الزمن، يصل هذا الفيلسوف الصوفي إلى نتيجة مفادها أن تطور الحضارات واندثارها هو ظاهرة دورية. فإن البشر، سواء كانوا مؤمنين أو ملحدين، مثاليين أو عقلانيين، فلاسفة أو علماء، كلهم على الطريق الذي أسماه ابن القيم مدارج السالكين، وهو طريق يعود بنا في نهاية المطاف إلى أنفسنا.
ويرى طارق رمضان أن العواطف تقيدنا وتحبسنا، بينما الروحانية هي الإلهام والسعي نحو الحرية. وحتى نحيا حياة الروحانية، نحتاج إلى ثلاثة أمور متأصلة في كل النظم والتقاليد: الاستقلال الذاتي للمرء (في مقابل الاتكالية والاعتماد على ما من شأنه أن يؤثر على الشخص)، تحمل المسؤولية (في مقابل عقلية الضحية) والمسلك البنّاء المفعم بالأمل (في مقابل اليأس أو الانهزامية التي لا تؤمن بإمكانية التغيير). إن الروحانية تحرر الأشياء وتمنحها معنى ومغزى. وتعتمد على الشروع في إدراك الذات والنضوج وتحمل المسؤولية والتحول التدريجي. والصوفية اليهودية والمسيحية والإسلامية تذكّرنا دوماً بالمراحل الأصلية للصحوة الروحية.
وفي رحلة البحث عن المعنى، لم ينس المؤلف دور التربية وأهميتها. ووفق التوزيع التقليدي للأدوار، فإن الآباء يغرسون المعنى والقيم والسلوكيات الصالحة، ويأتي دور المدارس والمعلمين في التعليم ونقل المهارات. ومن الممكن أن نلحظ اليوم حالة من السخط وعدم الرضا في عالم التعليم وتربية الأبناء: فمعلمو المدارس والتربويون قد فقدوا على ما يبدو هيبتهم ومقامهم الذي حظوا به في السابق. ويشير المؤلف هنا إلى نقطة في غاية الأهمية، هي ضرورة مقاومة الهوس بإصلاح الطرق والهياكل التعليمية في الوقت الحالي، فلا ينبغي أن تكون هذه هي القضية الملحّة الآن. فإن عصرنا الحالي يستلزم منا أن نعيد التفكير أولاً في المحتوى التعليمي الذي ندرّسه في مدارسنا، وأن نعيد ترتيب الأولويات بشأن ما يتعلمه الأطفال في نطاق الأسرة. فالتربية تحت الضغط وأسلوب التعليم الحالي ينتجان ماكينات لجمع المال، لا بشرا لديهم نزعة المشاركة.
وفيما يتعلق بالحداثة والتراث، يتعرض طارق رمضان لمعنى الحداثة، ويرى أنها لا تقدم الكثير في مسألة تحريرنا شأنها شأن التراث والتقاليد، بينما تحصر الثقافة العامة الأفراد في العلاقة بين المثير والاستجابة، وهي فكرة غير منطقية. إن ثقافة النزعة الاستهلاكية العامة تقتل الثقافات وتقضي على تنوعها، فهي تستجيب للرغبات والغرائز بينما الثقافات تهذب الأذواق. وبين تجاوزات الحداثة وأغلال التراث والتقاليد تظهر أزمة البحث عن التوازن.
ويرى رمضان أن « الرجل الكوني » لا يمكن أن يكون مجرد فرد واحد أو عقل واحد برؤية عالمية. فلا بد أن يجتمع المفكرون والمثقفون والعلماء ويدلون جميعاً بدلوهم ويجمعون علومهم، فيقاوموا هذه النزعة الغالبة في تجزئة المعرفة وتفريقها، ليؤسسوا صلات قوية وروابط حيوية بين المجالات المختلفة للنشاط البشري.
كل فصول هذا الكتاب تحتاج إلى تركيز شديد أثناء القراءة، فقد اعتاد طارق رمضان أن يكتب بقوة وتعمق ووجدان حاضر. لكن الفصلين الآخيرين حول الحب والصفح يتسمان بالسلاسة والسهولة البالغة ويبدو أنهما بمثابة خاتمة كبيرة لفكرته حول فلسفة التعددية.
إن النصوص المقدسة والتعاليم التراثية وسائر الفلسفات على مر الأعصار ترشدنا إلى التأمل في الطبيعة والتعلم منها ومن جمالها وسننها ودوراتها. ونعلم جيداً أننا نحب بطبيعة الحال، لكن هذه النصوص تعلمنا كيف نحب بطريقة أفضل، ونحب بوعي وبشكل روحاني، وأن نتعلم كيف نفهم المعنى الذي ينطوي عليه التحرر والانفصال. ينبغي لنا أن نتأمل في هذا المعنى الذي يؤكد عليه المؤلف: « أن تحب معناه أن تتلقى وتترك الآخرين يرحلوا. أن تمنح وتتعلم أن ترحل، والعكس ».
طارق رمضان هو أستاذ الدراسات الإسلامية المعاصرة بجامعة أكسفورد. ويدرّس في كلية اللاهوت بأكسفورد وباحث أول في جامعة دوشيشا، كيوتو، اليابان.
كُتب هذا الكتاب بأسلوب تأملي مباشر، وهو كتاب مهم يأتي في وقت مناسب من شأنه أن يوجه ويصوغ الجدل الدائر حول مجموعة من القضايا المهمة في وقتنا الحالي.
اسم الكتاب: البحث عن معنى: وضع فلسفة للتعددية (The Quest for Meaning: Developing a Philosophy of Pluralism)
المؤلف: طارق رمضان
إصدار: دار بنجوين للنشر، لندن، إنجلترا
* نشرت المقالة الأصلية بالإنجليزية بتاريخ ٦ أبريل ٢٠١١