الإشكال المفهومي للتراث وعلاقته بالوحي
بقلم : مصطفى علي حسون
أستاذ جامعي
اختلف العلماء في مفهوم التراث، و هذا ما أدى إلى بروز تيارات عديدة تفهم التراث بطريقتها و تتعامل معه على أساس ذلك الفهم.
سنتطرق في مقالنا هذا إلى هذه القضية و نفصل أنّ الخلاف الأكبر بينهم يكمن في: هل الوحي أي القرآن و السنة داخلان في إطار التراث أم أنهما منفصلان عنه؟ وفي كيفية التعامل معه: هل يعتبر التراث مقدسا لا يجوز مراجعته أو نقده أو الاضافة عليه أو رد بعضه، أو غير ذلك.
مفهوم التراث:
لغة: ذكر ابن منظور في لسان العرب أن الورث، والإرث، والميراث، والتراث، كلها بمعنى واحد، ثم ذكر معنى التراث بأنه: « ما يخلفه الرجل لورثته ».
اصطلاحا: فقد عرف الدكتور أكرم العمري التراث الإسلامي بأنه: « ما ورثناه عن آبائنا من عقيدة، وثقافة، وقيم، وآداب، وفنون، وصناعات، وسائر المنجزات الأخرى المعنوية والمادية، ويشمل كذلك على الوحي الإلهي (القرآن والسنة)، الذي ورثناه عن أسلافنا ».
ويعرف الفيلسوف الاسلامي حسين نصر التراث على أنه يمثل کل المکونات التي تجذرت من الوحي المحمدي وانتشرت عبر التاريخ والحضارة الإسلامية من فن وفلسفة وعرفان ولاهوت وغير ذلك، فالوحي هو کائن حي متصل بالسماء وينبوع للحاجة الروحية للإنسان في کل العصور.
والتراث الإسلامي مصطلح شامل يتسع لكل ما له علاقة بالإسلام من نصوص القرآن والسنة النبوية، واجتهادات العلماء السابقين في فهم هذه النصوص وتطبيقها على الواقع.
والخلاف الحاصل حول ما إذا كان هذا التراث دينا مقدسا يجب الالتزام به، أو نصوصا واجتهادات مرتبطة بأزمانها وأماكنها، ونتعامل معها على أنها تاريخ ينقل لنا تجربة بشرية قابلة للنقد والنقض والتعديل والتطوير بما يتناسب مع الزمان والمكان والظروف الخاصة بكل عصر.
و انقسم المتعاملون مع التراث إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: النصيّيون أو الظاهرييون وهم الذين يرون أن التراث كله -النصوص الشرعية والاجتهادات البشرية على حد سواء- دين مقدس صالح لكل زمان ومكان ويجب الالتزام به، والوقوف عند كل جزئية من جزئياته، مستدلين بقوله صلى الله عليه وسلم: (مَن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)(أخرجه البخاري).
فحكموا على كل إضافة في هذا التراث بالرد، وعطَّلوا باب الاجتهاد محتجين بأن الله أكمل الدين وأتم التشريعات الكلية والجزئية, ولا داعي لأي إضافة بشرية مستدلين بقوله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً)(المائدة:3)، ونتيجة هذا التفكير وقف هؤلاء عاجزين عن حل مشكلات العصر واستيعاب مستجداته.
القسم الثاني: الحداثييون وقد نظروا إلى التراث الإسلامي على أنه اجتهادات بشرية محكومة بعقول وأفهام بشرية وبواقع، وبالتالي فهي قابلة للأخذ والرد؛ لأنها اجتهادات بشرية، ولأنها مرتبطة بزمان ومكان خاصين وقد لا تتناسب مع غيرهما، والواقع أن أكثر هؤلاء أداروا ظهورهم لكل هذا الموروث وجردوه من أي صفة دينية قدسية , فعلى سبيل المثال يدعو طه حسين إلى إخضاع القرآن الكريم للنقد كأي نص أدبي, ويدعوا آركون إلى نقد العقل الإسلامي, ويقصد كل ما كان له دور في تشكيل العقل الإسلامي من نصوص القرآن والسنة واجتهادات العلماء السابقين.
وما يجمع بين هؤلاء أنهم يخضعون التراث الإسلامي كله بما فيه القرآن والسنة للنقد والنقض والأخذ والرد، أي أن التراث الإسلامي –عند هؤلاء- كله تاريخ وليس فيه شيء مقدس.
القسم الثالث:
بين إفراط الظاهريين وتفريط الحداثيين هناك من فرقوا في تعاملهم مع التراث الإسلامي بين قسمين:
الأول: ما هو نصوص سماوية أو وحي رباني بالمفهوم العام للوحي الذي يشتمل على القرآن و السنة النبوية الصحيحة وما يدخل في حدود قوله تعالى (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى*إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) (النجم:3-4)، وهذا لا شك أنه دين مقدس يجب الالتزام به، ولا يصح بحال التلاعب به لا زيادة ولا نقصا ولا تبديلا، فضلا عن إخضاعه لعملية النقد البشري.
الثاني: ما هو اجتهادات بشرية في فهم هذه النصوص وتطبيقها على الواقع، وهذا بلا شك موروث تاريخي له قيمة كبيرة، يمكن الانتفاع به، والانطلاق منه، والبناء عليه، ولا يصح تجاوزه أو تجهله، ولكنه مع ذلك لا يحمل صفة الدين والقداسة، لذا فهو قابل للنقد أو حتى النقض والأخذ والرد والتطوير.
وبهذا المفهوم يمكن للثراث الإسلامي أن يجمع بين ما هو دين مقدس, وما هو تاريخ في ذات الوقت، أما الدين فهو النصوص القطعية -أقصد القرآن والسنة الثابتة- وهذه تمثل الأصول والكليات والأهداف والقواعد العامة, والمرن هو النصوص الظنية أي المحتملة لثبوت النقل وعدمه, وهي ما سوى القرآن والأحاديث النبوية الثابتة، أو النصوص المحتملة لأكثر من معنى، كلها بما فيها القرآن والسنة وهذه تمثل الفروع والجزئيات والوسائل وأساليب التطبيق.
روعة
أرجو زيادة من المعلومات حول هذا الموضوع