هذيان العوام: ماذا بعد الديموقراطية ؟
بقلم حياة بن عمار
من أبرز إشكاليات هذا العصر ، الجدل القائم حول الديموقراطية و الإسلام و ما تبعه من صراعات كارثية في واقع المجتمعات ، إذ لم تعد في العالم قداسة تقوى على المجابهة الفكرية و الميدانية لقداسة الديموقراطية بشكلها المتعارف عليه اليوم، غير الإسلام. و قد يتمخض هذا الجدل بميلاد مفاهيم جديدة تجيب على سؤال « ماذا بعد الديموقراطية ؟ »
و إن كانت نقاط الجدل متعددة من ورود تصادم حكم الأغلبية مع حكم الشرع، و محل رجال الدين من السلطة …..فإن أصل الإشكال هو أن الفكرتين تحملان في بنيتهما الجوهرية تضادا صارخا فالإسلام يتمحور حول فكرة التوحيد التي تحمل في لبها مركزية الإله و الديموقراطية تعتمد على فكرة الحرية التي تحمل في لبها مركزية الإنسان. والإسلام جاء بفلسفة غائية تفضل سعادة الآخرة على سعادة الدنيا و تحد من المتعة لصالح الفضيلة بينما تنزع الديموقراطية إلى حرية لا تحدها إلا حرية الآخر سعيا لتحقيق » السعادة الدنيوية » .
و قد حاول جزء من عالم الأفكار الإسلامي استيعاب فكرة الديموقراطية و التوفيق بينها و بين الإسلام فكانت فرصة لتذكيرنا أن الإسلام يسعى لتحقيق المصلحة و السعادة الدنيوية أيضا و يجعلها أساسا من أسس الفهم و التشريع و تلك فلسفة المقاصد التي شكلت أرضية فكرية تقبل أن تضم الديموقراطية إلى الإسلام . أما في الممارسة السياسية الإسلامية فقد استوردت آليات الديموقراطية في محاولة من الإسلاميين لإثبات مواكبتهم للعصر و متطلباته ، إلا أن مصالح الأقوياء في الأرض تأبى إلا أن تبقى الفكرتان تبدوان بهذا التناقض فبالإضافة إلى تناقض المنطلقات الفلسفية ، لم يترك لأي تجربة إسلامية الوقت الكافي و لا الحرية اللازمة لإثبات إمكانية تعايش الفكرتين.
و لن ينجح الإسلاميون تحت لواء الديموقراطية في تبرئة أنفسهم من استعمال الدين و الديموقراطية من أجل السلطة و لا من تهمة الدوغماتبة ، و لن ينجحوا في طمأنة العلمانيين المسلمين الذين يبقى تخوفهم أن تكون الديموقراطية مجرد جسر يؤسس لتيوقراطية جديدة .
و ليست قضيتي في هذا المقال أن أعرض مدى توافق الإسلام مع مبادئ الديموقراطية و لا مدى التناقض بينهما، فقد تعددت الأطروحات و الرؤى حول القضية بين من تطرف لإسلام لا يقبل الديموقراطية و من تطرف لديموقراطية لا تقبل الإسلام و من وفق بين الديموقراطية و الإسلام بشكل أو بآخر و لكنني أدعو هنا لطرح السؤال بطريقة أخرى بعيدا عن الثنائيات المختزلة ، و خارج الصناديق الضيقة للاقتراع و التفكير .
و لربما نحتاج في عالمنا اليوم من أجل تصور مستقبل أفضل أن نبدأ بطرح الأسئلة الأبسط و الأعمق ، أسئلة على شاكلة من نحن ؟ ماذا نريد و ماذا لا نريد ؟ كيف ينبغي أن نكون ؟ إلخ. قبل أن نجيب على سؤال « أي نظام حكم نريد » ؟
إنسان الألفية الثالثة يريد حقه في أن يكون « هو » ، بتاريخه بقيمه بثقافته و فنونه و بدينه ، يريد حقه في الإيمان أو حقه في الكفر ، يريد حرية الفكر و حرية التعبير ، يريد الأمن و السلام و يريد عيشا كريما في منأى عن التسول و مأمن من الاستدانة. يريد العدل و المشاركة في تقرير مصيره .
و لكنه يريد أيضا أن يعرف الحقيقة و ألا يكذب عليه أو يضلل به ، يريد حقه في معرفة أي السبل أقرب إلى تحقيق مصلحته ، و يريد قيادات تطبق « ما فيه نفع و صلاح » له و لمجتمعه ، لا ما يتماشى مع قناعاتها الفكرية و العقائدية و لا ما يتماشى مع مصالح أصحاب القوة و النفوذ. يريد أن يتمكن من الابصار بوضوح حين تتضارب المعلومات في عصر المعلوماتية .
إنسان هذا العصر إضافة إلى ما احتاجته البشرية جمعاء من قيم عليا: الحرية، العدل، المساواة، الرحمة، الكرامة، يريد منفذا إلى الحقيقة و ضمانا للمصلحة حتى يختار على بصيرة. فهل تكفل له الديموقراطية ذلك؟
يبدو ان هناك حلقة ناقصة (حلقة على الأقل) في نظام الديموقراطية حتى تصح المعادلة .
حلقة تساعد على التمييز بين الوعود المغررة و بين المشاريع الطموحة الواقعية، و تفك أسر الوجدان من الانجراف خلف كاريزما الأشخاص و مؤثرات الحملات التسويقية، حلقة تعطي تقييمات و محصلات علمية موضوعية لمسارات الهيئات التنفيذية و التشريعية ، حلقة تشارك في التشريع مشاركة نوعية ، و تساعد الجماهير على الاختيار الراشد . و تلك حلقة لا يمثلها بالشكل الأمثل إلا الباحث ، الباحث بكل ما في الكلمة من تجرد و بكل ما يتطلب الأمر من منهجية، لأنه يملك خلاصة المناهج المعرفية لجل الأزمنة و الأمكنة و أدوات اختبار المعطيات و الأفكار و الأطروحات و السياسات و القوانين .
هل من المصلحة ، أن تكون في حوزة باحثينا سواء في علوم المادة أو في علوم الإنسان ، معطيات و خلاصات و مقترحات قد تشكل حلولا لأزمات أوطاننا و تصنع غدا أفضل للأجيال ، ثم لا تعدو توصياتهم إلا أن تكون كلاما قد يأخذ به من طرف الهيئات التشريعية و التنفيذية و قد لا يأخذ به ؟ و جود الجامعات و مراكز الدراسات و الأبحاث لا يكفي مادامت لم توضع صيغة تحدد دور مؤسسات البحث العلمي و صلاحياتها في النظام السياسي للدولة ، بذلك فقط نتحول من حكم الشعب إلى الحكم المستنير للشعب و من الديموقراطية إلى الأكاديموقراطية.
المبدأ العام هو إعطاء دور فارق للباحثين داخل النظام السياسي في إعلام الجماهير و التشريع للدولة و الرقابة على السلطات التنفيذية و أن يحتكم إلى البحث في العلوم المادية و الإنسانية، خصوصا في القضايا الخلافية ، أما الصيغة فينبغي أن تحدد بالتناسب مع معطيات كل دولة و مع درجة تطور البحث العلمي فيها ، كما ستكون رهنا بإمكانية تأسيس عقل منهجي جمعي في كل ميدان و درجة الاستعداد لبناء الفكر المعقد ( الذي يقبل تداخل ميادين الفكر و العلم).
قد تكون الصيغة تشكيل مجلس منتخب لممثلي مؤسسات البحث العلمي بحيث يكون هذا المجلس الجزء المكمل للسلطة التشريعية البرلمانية. و قد تكون الصيغة خلق هيئة استشارية من الباحثين داخل البرلمان تكلف باطلاع البرلمانيين على جل أعمال مؤسسات الدراسات و الأبحاث المتعلقة بمشروع قانون ما و حوصلتها (على سبيل المثال) قبل التصويت. و قد يكون بتشكيل مجمع الباحثين الذي يضم جميع باحثي الدولة تحت قيادة تجيد تقنيات التفكير الجماعي و الإجماع العلمي و الحوصلة الممنهجة انطلاقا من بنك معلومات منظم يضم جل الأبحاث المحققة في كل الميادين، فإن تحقق ذلك فمن المنطقي أن تتفوق صلاحيات مجمع الباحثين على صلاحيات البرلمان.
و نعود إلى الإشكال الذي به بدأنا ، و ما الذي يمكن أن تقدمه الأكاديموقراطية في العالم المسلم حيث الصراع الإيديولوجي بين الإسلام و العلمانية و حيث النزاعات المذهبية و حيث يستعمل الدين من أجل السلطة و النفوذ و حيث التخوف من التيوقراطية ، و حيث تدمر الأمم و تزهق الأرواح بألسنة علماء الدين و فتاويهم و حيث يشكل الدين أهم مقوم للهوية و حيث المعتقد السائد أن رسالة الإسلام لم تأتي فقط بالشعائر التعبدية و لكن جاءت منظورا شاملا يعنى بحياة الأفراد و المجتمعات بكل جوانبها، و حيث نحب الإسلام حبا عميقا و نخاف من الإسلاميين و فهمهم الخاص للدين خوفا شديدا.
إن نظام الأكاديموقراطية في جوهره يدعو إلى جعل البحث العلمي حكما نسبيا بين الأطراف المتنازعة ، و الباحث لا يستثني مصدرا من مصادر المعرفة فيقبل محتوى الكتب المقدسة كمادة معرفية غنية حتى و إن لم يعتقد بقدسيتها كما يقبل المصادر الدينية و التاريخية و يمتلك الادوات و المناهج العقلية و التجريبية لاختبار صحة محتواها و مدى تحقيقها للمصلحة. في هذا النظام لا يأخذ القرار بتبني سياسة أو قانون بمقتضى الخلفية الإيديولوجية لمن طرحها أو مدى شعبيته ، بل سيكون العامل الأهم هو ان تثبت المقترح تحقيقه للمصلحة بالتحليل و التجريب.
فهل سيرتضي العالم المسلم بالبحث العلمي حكما ؟ ام انه حلم بعيد المنال ؟
هذا المقال لا يعبر إلا عن رأي صاحبته
big like
فكرة رائدة ونظرة صائبة
وهي تؤسس لنظام سياسي عالمي وحدوي بغض النظر عن الخلاف الإيديولوجي
في تراثنا الإسلامي نظرية قريبة منها وهي أن الإمام يختاره أهل الحل والعقد ضف إلى ذلك الشورى
يجب على العالم الإسلامي أن يرضى بالبحث العلمي حكما ولكن بما أننا في العالم الإسلامي فلماذا بعيدا عن اعتقاد قدسية النصوص المقدسة
الحكم التيوقراطي رفضه رسول الله صلى الله عليه و سلم في معنى حديثه قال عليه الصلاة والسلام :
وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ فَلا تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ ، وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِكَ ،فَإِنَّكَ لا تَدْرِي أَتُصِيبُ حُكْمَ اللَّهِ فِيهِمْ أَمْ لا . رواه مسلم .
فلا عصمة إلا للوحي وحكم الناس غير معصوم
وليثبت المسلمون أن النصوص صالحة بحسن إنزالها إلى الواقع مع الإستفادة من الأكاديمقراطية ومن شورى الباحثين في مختلف المجالات
مقال رائع وفكرة رائدة
قراته مرارا و تكرارا بالرغم انه سهل الا انه ممتنع
الجميل فيه ان الافكار جمعت بين العلم و الدين في قالب يخدم المباديء الدنيوي فيما يتوافق مع الرسالة الاخروية
اول نقطة …..اثرتي نظام بدا يطفوا في الاونة الاخيرة و هو النظام الثيوقراطي الذي يشكل خطر اكبر من الدمقراطية نفسهاوهو ما رفضه لاسلام حين ميز بين التشريعة الذي جعله حقا لله و الاجتهاد الذي جعله حقا للناس …..قال تعالى ﴿ واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ﴾
تطرقك لهذا النظام خلق توازن و قبول للنظام المطروح ….النظام الاكاديموقراطي و هو فكرة رائعة لانه سيجعل من الانظمة اوحد و اكثر تمييز ( منطقية لا عشوائية مبنية على التخمينات )
لكن ؟
1- هذا النظام يعارض مصالح الجزئية التي تعتمد على صناعة التخلف في البلدان النامية و الاسلامية على وجه الخصوص
2-هل ستتبنى انظمة امية بنخبة تتسارع نحو المكاتب المكيفة ( تابعة) افكار تذيب فسادهم
3-نحن بحاجة الى قنوات اتصال فعالة تنطلق من القاعدة نحو القمة ضمن افكار ثابتة لا متلوية
بكل مصداقية …مقال رائع و متوازن حبذا لو تخصصي مقال اخر يحوي الفكرة الاخيرة و يشرحلها بدقة اكث
بوركتي
السلام عليكم ، أولا أهنئك على هذا المقال الذي لا يخلوا من النظرة النقدية التي تعكس الغيرة على هذه الأمة ، كما أنه زاد على ذلك بنظرة إستشرافية تطرح البديل و تضع يدها على مكمن الحل ، أعتقد أننا نحتاج إلى مصالحة فكرية تسبقها محاسبة و مكاشفة ، فلا تاريخنا كتب بموضوعية و لا مستقبلنا يخطط له بموضوعية وهنا الإشكال ، لهذا إذا موضَعنا التاريخ سنموضع المستقبل . تحياتي أخوك عبد المجيد سجال .