قراءة في كتاب: على خطى النبي للبروفيسور طارق رمضان*
بقلم: نور يوسف
على خطى النبي كتاب في السيرة النبوية العطرة، دوّن فيه البروفيسور طارق رمضان بعض أجمل وأروع الدروس المستقاة من حياة النبي عليه الصلاة والسلام، وركّز فيه على الجانب الإنساني للرسول بوصفه الجانب الأكثر ملازمة لواقعنا كبشر؛ هدفه في ذلك أن تكون الاستفادة من السيرة النبوية أكثر واقعية بالنسبة لنا. استخلص ما أمكنه من دروس في أحيان كثيرة واكتفى بسرد الوقائع في أحايين أخرى. كتاب لاقى إعجابا كبيرا بين القراء المهتمين من المسلمين أو الغربيين، حيث تمّ نشر أكثر من ألفيْ تعليق عليه في موقع الكودريدز. ترجمه إلى العربية المترجم الفلسطيني العريق د. زهير السمهوري.
بعد مرور 14 قرنا على تجربة النبي عليه الصلاة والسلام الخالدة في نشر رسالة الحب والسلام وبعد أن وصلتنا كلمات الوحي محفوظة من كل زيادة أو نقصان، وبعد تراكم الكثير من الأفكار التي نحملها حول الدين؛ يجدر بنا أن نعود عبر الزمن ونعايش ما عايشه الرسول كأنّه بيننا لنلحظ عن كثب انفعالاته وأفعاله وطريقة عيشه.. فتُصحَّح الكثير من المفاهيم ويتضح بعض الغموض في فهم الحياة، كلّ ذلك من خلال قراءة واعية لسيرته عليه السلام بوصفه النموذج الحيّ الأقرب إلى طبيعتنا والذي اختاره الله تعالى كي يحمل إلينا رسالته.. حينها فقط ندرك حقا أنّه القدوة التي اختارها الله لنا لاتباعها إن أردنا تحقيق سلام داخلي أو خارجي.
تأخذنا صفحات هذا الكتاب الرائع إلى حياة ملؤها الجهاد والتعب، إلى حياة لا تعرف معنى الراحة حتى تجدها جوار رب العالمين، إلى حياة كابدت الآلام، واجهت الشقاء، ذرفت الدموع.. من أجلنا نحن، من أجل أن يصل صداها وروعة صوتها إلى آذاننا لعلّنا نسمع أو نعقل.
من خلال صفحات هذا الكتاب: ستعجب كل العجب من رجل لا يعرف السأم إلى قلبه سبيلا، ستعجب من رجل يُخطّط وينظّم ويدرس الأوضاع، ويجتهد ويأخذ كلّ الحذر رغم أنّه رجل يوحى إليه من ربّ العالمين. ستعجب من رجل لا يقصي أحدا: لدينه أو لتوجّهه أو للون بشرته أو لجنسه أو لعمره أو لطبقته الاجتماعية، فقد تعامل مع كلّ هاته الأطياف باحترام تام وبتقدير بالغ لمعنى الإنسان والإنسانية، كان يتيح الفرص لأضعف الناس كي يثبت ذاته ويثق في نفسه، والنماذج على ذلك كثيرة منثورة في ثنايا حياته عليه السلام.
في الأسطر القادمة سنتعرض لبعض الدروس المفيدة التي استخلصها الكاتب في كتابه، لكن هذا لا يغني عن قراءة الكتاب كاملا لتتعمّق الفائدة وتعمّ.
ماضي الإنسان:
وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى * وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى * أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى * فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ
آيات سورة الضحى يمكن أن نستخلص منها درسا صالحا لكلّ إنسان: ألاّ ينسى أبدا ما كان عليه في الماضي، والمحن التي مرّ بها وبيئته وأصله، وتحويل تجاربه إلى درس إيجابي له وللآخرين. يُذكِّر الواحد الأحد محمدا صلى الله عليه وسلّم بأنّ ماضيه يُعدّ مدرسة يجب أن يستقي منها معرفة مفيدة وعملية وملموسة لأولئك الذين شاركهم حياتهم ومعاناتهم، لأنّه يعرف من تجربته مشاعرهم ومعاناتهم أكثر من أيّ طرف آخر.
الطبيعة والتأمّل:
تعمل حياة الصحراء أو الطبيعة، على تكوين الإنسان ونظرته للخلق ولعناصر الكون. في سنوات حياته الأولى نشأت لدى محمد عليه السلام علاقة خاصة بالطبيعة وظلت ملازمة له طيلة مدة بعثته، فالكون يعجّ بالآيات التي تشير إلى وجود الخالق، وتفتح الصحراء ـــأكثر من أي شيء آخرـــ العقل الإنساني للملاحظة، والتأمّل للوصول إلى المعاني… هذه الصلة بالطبيعة لازمت حياة النبي عليه السلام منذ أوائل طفولته، بحيث يمكن للمرء أن يستنتج أنّ العيش في أحضان الطبيعة ومراقبتها وفهمها واحترامها شيء لابدّ منه للإيمان العميق.
فالطبيعة هي الدليل الأساسي والرفيق الحميم للإيمان.. هذا النوع من التربية والتعليم البعيد جدا عن شكلية الطقوس الدينية الخالية من العنصر الروحي، ينشئ ويعزّز علاقة صلة بالله تقوم على أساس التأمّل والعمق اللذين سيجعلان من الممكن لاحقا، في مرحلة ثانية من التربية الروحية، فهم مغزى الطقوس الدينية وشكلها وأهدافها. ففي انفصالنا عن الطبيعة، فإننا على ما يبدو قد نسينا معنى هذه الرسالة لدرجة أننا نقلب بشكل ينطوي على الخطر ترتيب المقتضيات، ونؤمن بأنّ تعلّم أساليب الدين وأشكاله يكفي للتوصل إلى معناها وأهدافها. هذا الوهم يؤدي إلى عواقب كبيرة إذ إنّه يقود إلى تفريغ التعاليم الدينية من جوهرها الروحي، الذي يجب أن يكون في الواقع قلب هذا الجوهر.
القيم الإنسانية سابقة للتشريع الإسلامي:
أو كما قال الرسول عليه السلام: “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”. فالإسلام لا يقيم عالما مغلقا للمرجعية بل يعتمد على مجموعة من المبادئ الشمولية التي يمكن أن تتطابق مع أسس وقيم ومعتقدات وتقاليد دينية أخرى. ففي وقت كانت فيه الرسالة لا تزال تتكامل خلال مجرى الوحي وتجارب النبي عليه السلام، فإنه قد اعترف بصلاحية حلف الفضول الذي أقامه أناس غير مسلمين، بل وثنيّون ينشدون العدالة والصالح العام لمجتمعهم. إنّ قول النبي عليه السلام هو بحد ذاته إنكار صريح للمنحى الفكري الذي يجري التعبير عنه في تاريخ الفكر الإسلامي، والذي لا يمكن بموجبه لعهد أن يكون صالحا من الناحية الأخلاقية إلاّ إذا كان ذا طبيعة إسلامية صرفة.
الهجرة:
قال الله تعالى: “وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً ۖ وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ، الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ”
المنفى إذا هو امتحان آخر للتوكل على الله، فقد تعرّض جميع الأنبياء إلى هذا الامتحان القاسي للقلب.. فإلى أيّ مدى يستطيعون المضيّ، وإلى أيّ مدى هم مستعدون للعطاء من أنفسهم وحياتهم للواحد الأحد والثقة به ومحبته؟
لقد كانت الهجرة، في الواقع تقتضي أن يتعلّم المسلمون الأوائل كيف يظلّون أوفياء لتعاليم الإسلام رغم تغيّر المكان والثقافة والذكريات.. كان على جماعة المؤمنين في سعيهم للاقتداء بالنبي، أن يميزوا بين ما يخص المبادئ الإسلامية، وما يتصل بشكل أخص بالثقافة المكية، وقد ظلوا أوفياء للأولى والعمل على اكتساب منهج مرن ونقدي إزاء ثقافتهم الأصلية.
الهجرة هي أيضا الشعور بالتحرر التاريخي والروحي على حد سواء، فقد حرر موسى عليه السلام شعبه من اضطهاد فرعون وقادهم إلى الإيمان والحرية، إذ أن جوهر الهجرة من الطابع نفسه تماما.
إن البعد الروحي لمعنى الهجرة قريب وفي المتناول، فمنذ أوائل نزول الوحي، دُعي محمد عليه السلام إلى أن ينأى بنفسه عن مضطهديه وعن الشر؛ قال الله تعالى: “وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا ” وقال: “وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ”. وعن دعوة ابراهيم عليه السلام قال: “فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ ۘ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَىٰ رَبِّي ۖ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ”.
الهجرة إذاً هي منفى الضمير والقلب من الآلهة المزيفة، وهي: “أن تهجر الشر” كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم.
كانت هجرة المسلمين إلى المدينة هجرة روحية إلى داخل ذواتهم، ففي ترك مدينتهم وجذورهم عادوا إلى أنفسهم، إلى قربهم من الله، إلى معنى حياتهم الذي يتجاوز الأحداث التاريخية الطارئة. الهجرة الروحية إذاً هي التي تعيد الفرد إلى نفسه وتحرره من أوهام الذات والعالم. إنّ الهجرة في سبيل الله هي من حيث الجوهر؛ سلسلة من الأسئلة التي سوف نُسأل عنها: من أنت؟ ما معنى حياتك؟ إلى أين أنت ذاهب؟
السؤال كطريقة للحوار:
كان النبي عليه السلام طيلة بعثته يستشير أصحابه ويشجعهم على الإعراب عن آرائهم ويعيرهم انتباهه الكلي، وكان النبي صلى الله عليه وسلّم قد استحدث أيضا أسلوبا تعليميا حقيقيا أتاح للمسلمين تطوير مواهبهم النقدية والتعبير عنها، وأن ينضجوا في وجوده. كان كثيرا ما يطرح أسئلة عن مختلف المواضيع ولا يعطي الإجابات إلا بعد أن يكون اصحابه قد أعملوا فكرهم وأعربوا عن تخمينات مختلفة.
التربية الروحية:
قد واجه النبي عليه السلام المرة تلو الأخرى مثل تلك النزاعات بين أصحابه، وفي كل مرة كان الوحي أو النبي عليه السلام نفسه يذكّرهم بأنّه يتعيّن عليهم أن يسألوا أنفسهم عما كانت عليه نواياهم: هل كانوا يسعون وراء الثروة في هذه الدنيا أم السلام في الآخرة؟ كانوا ولا يزالون بشرا، بنقاط ضعفهم والإغراءات التي يتعرضون لها، كانوا بحاجة إلى من يذكّرهم وإلى تربية روحية وإلى الصبر.
وكما هي حال كلّ شخص؛ أكان قريبا من النبي عليه السلام أو في أي زمن من التاريخ البشري، كانوا بحاجة إلى من يذكرهم وإلى التربية الروحية، فالتاريخ يُنبئنا بأنّه لا ينبغي أن يُعتبر أيّ أحد قد بلغ مرتبة الكمال المثالي.
اللطف، الاهتمام، الحب:
قد ظلّ محمد صلى الله عليه وسلم في حياته اليومية، برغم انشغاله بالهجمات والخيانات وتعطّش أعدائه للثأر؛ يهتم بالتفاصيل الصغيرة في الحياة، وبتوقعات من حوله، ويجمع دائما بين الصرامة وسماحة الأخوة والغفران..
النبي واليقظة والتخطيط الدائمين:
لقد غيّر الانتصار على الأحزاب والحملة ضد بني قريظة؛ الوضعَ في الجزيرة، حيث تم الاعتراف بقوة النبي عليه السلام وأصحابه، فالبعض مثل الفرس والبيزنطيين كانوا يتحدثون عن محمد عليه السلام بوصفه ملك العرب القوي، حيث إنّهم وجدوا فيه قوة إقليمية مرهوبة الجانب، وكان محمد عليه السلام عندما تأتيه استطلاعات استخباراتية بوجود خطر، لا يتردد في إرسال الحملات إلى القبائل القريبة بغية استباق أيّ محاولة للتمرد أو الهجوم، وليوضح بذلك للعشائر المجاورة بأن مسلمي المدينة هم دائما في حالة اليقظة والاستعداد للدفاع عن أنفسهم.
الثبات على المبادئ يؤدي إلى النصر ولو بعد حين:
قبل حوالي ثماني سنوات كان محمد عليه السلام قد غادر مكة سرا، ولكن بكرامة مرفوع الرأس، وقد عاد الآن إلى مكة في ضوء النهار، منتصرا، لكنه هذه المرة أحنى رأسه وهو على مطيته شكرا للواحد الأحد وهو يتلو الآيات الأولى من سورة الفتح.. من موقع القوة قد صفح النبي عليه السلام عن جميع النساء والرجال الذين أتوا إليه، ودخل الكثيرون من قريش الإسلام عند الصفا أمام عمر رضي الله عنه، فقبل بضع سنوات وصَم القرشيون النبي عليه السلام بالكذب في البقعة نفسها.. هذا درس قوي في الثبات على المبادئ والمثابرة على نشرها إلى أن يشاء الله إظهارها.
الجهاد الأكبر:
لدى عودته من حنين، قال النبي عليه السلام: “لقد رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر”، وقد سأله أحد الصحابة: ما الجهاد الأكبر، يا رسول الله؟ فأجاب: “مجاهدة النفس”. فبالنسبة للمسلمين، كما هي الحال لجميع البشر، الجهاد الداخلي هو الأصعب والأكثر نبلا والذي يَفيض بأكبر معرفة للنفس والصدق معها. لقد أظهرت الحياة اليومية وجهادها الأكبر للمسلمين الآن أنّه من أصعب الأمور: العيش في سبيل الله، في نور وشفافية وانسجام ومتطلبات روحية وصبر وسلام.
حجة الوداع:
كان النبي عليه السلام حقا شاهدا على الجماعة الروحية المسلمة، وفي تواصل معها في قلب الحج، أعاد الرسول عليه السلام إلى الأذهان النقطة الأساسية في رسالة الواحد الأحد: المساواة المطلقة للبشر أمام الله، بصرف النظر عن العرق والطبقة الاجتماعية أو الجنس، إذ أنّ الشيء الوحيد الذي يميّزهم يكمن فيما يفعلون بأنفسهم، بذكائهم وصفاتهم، والأهم من ذلك: بقلوبهم.. فإنّ البشر يتميزون بما يولونه لقلوبهم من اهتمام وتربية روحية.
وصايا قبل الموت:
كان النبي عليه السلام، استنادا إلى أوامر الوحي، لا يصلي على قبر أحد من المؤمنين إلاّ إذا تمّ الوفاء بكافة ديونه، وكان يعرف أنّه حتى إذا ضحى الإنسان بحياته في سبيل الله، فإنّ الدَّيْن يظل عينا عليه لا يغفره الله له. فيجب أن يموت دون أن يكون لأحد عليه أي ديْن، وأن لا يحمل معه أيّ ذنب لم يغفر ولا أمانة لم تؤدّ ولا رسالة لم تسمع.
في التاريخ إلى الأبد:
قال الله تعالى: “لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا”، كان محمد عليه الصلاة والسلام يسعى طيلة ثلاثة وعشرين سنة من رسالته، إلى الطريق المؤدية إلى الحرية الروحية والتحرر، كان ينزل عليه الوحي خطوة فخطوة خلال ظروف الحياة، وكأن العليّ الأعلى كان يتحدث إليه في التاريخ وإلى الأبد، وكان النبي عليه السلام يصغي إليه ويتأمل في آيات الليل والنهار، في الصحبة الدافئة لأصحابه أو في عزلة الصحراء، كان يصلي في الوقت الذي ينام فيه عالم البشر، وكان يدعو الله في الوقت الذي كان إخوته وأخواته يشعرون باليأس، وقد ظلّ يتحلى بالصبر والثبات في وجه الشدائد والإهانات في الوقت الذي كان الكثيرون من البشر يتحاشونها. قد حررته قوته الروحية من سجن الذات، وظلّ يرى ويتذكر آيات من هو أقرب إليه من حبل الوريد.. ذلك رسول الله محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، جعله الله قدوة لنا وجمعنا به في جنات الخلد. آمين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* المصدر: موقع يقظة فكر، الرابط التالي: http://feker.net/ar/2014/02/25/159357/
baraka allah fik ya doctor tarek
Abqaka l lahu lana murchidan ya ibnii.
ce qui a bien explique tarek ramandan on le partage dan
nos socites
فالطبيعة هي الدليل الأساسي والرفيق الحميم للإيمان.. هذا النوع من التربية والتعليم البعيد جدا عن شكلية الطقوس الدينية الخالية من العنصر الروحي، ينشئ ويعزّز علاقة صلة بالله تقوم على أساس التأمّل والعمق اللذين سيجعلان من الممكن لاحقا، في مرحلة ثانية من التربية الروحية، فهم مغزى الطقوس الدينية وشكلها وأهدافها. ففي انفصالنا عن الطبيعة، فإننا على ما يبدو قد نسينا معنى هذه الرسالة لدرجة أننا نقلب بشكل ينطوي على الخطر ترتيب المقتضيات، ونؤمن بأنّ تعلّم أساليب الدين وأشكاله يكفي للتوصل إلى معناها وأهدافها. هذا الوهم يؤدي إلى عواقب كبيرة إذ إنّه يقود إلى تفريغ التعاليم الدينية من جوهرها الروحي، الذي يجب أن يكون في الواقع قلب هذا الجوهر.
القيم الإنسانية سابقة للتشريع الإسلامي:
أو كما قال الرسول عليه السلام: “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”. فالإسلام لا يقيم عالما مغلقا للمرجعية بل يعتمد على مجموعة من المبادئ الشمولية التي يمكن أن تتطابق مع أسس وقيم ومعتقدات وتقاليد دينية أخرى. ففي وقت كانت فيه الرسالة لا تزال تتكامل خلال مجرى الوحي وتجارب النبي عليه السلام، فإنه قد اعترف بصلاحية حلف الفضول الذي أقامه أناس غير مسلمين، بل وثنيّون ينشدون العدالة والصالح العام لمجتمعهم. إنّ قول النبي عليه السلام هو بحد ذاته إنكار صريح للمنحى الفكري الذي يجري التعبير عنه في تاريخ الفكر الإسلامي، والذي لا يمكن بموجبه لعهد أن يكون صالحا من الناحية الأخلاقية إلاّ إذا كان ذا طبيعة إسلامية صرفة.
الهجرة:
قال الله تعالى: “وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً ۖ وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ، الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ”
المنفى إذا هو امتحان آخر للتوكل على الله، فقد تعرّض جميع الأنبياء إلى هذا الامتحان القاسي للقلب.. فإلى أيّ مدى يستطيعون المضيّ، وإلى أيّ مدى هم مستعدون للعطاء من أنفسهم وحياتهم للواحد الأحد والثقة به ومحبته؟
لقد كانت الهجرة، في الواقع تقتضي أن يتعلّم المسلمون الأوائل كيف يظلّون أوفياء لتعاليم الإسلام رغم تغيّر المكان والثقافة والذكريات.. كان على جماعة المؤمنين في سعيهم للاقتداء بالنبي، أن يميزوا بين ما يخص المبادئ الإسلامية، وما يتصل بشكل أخص بالثقافة المكية، وقد ظلوا أوفياء للأولى والعمل على اكتساب منهج مرن ونقدي إزاء ثقافتهم الأصلية.
الهجرة هي أيضا الشعور بالتحرر التاريخي والروحي على حد سواء، فقد حرر موسى عليه السلام شعبه من اضطهاد فرعون وقادهم إلى الإيمان والحرية، إذ أن جوهر الهجرة من الطابع نفسه تماما.
إن البعد الروحي لمعنى الهجرة قريب وفي المتناول، فمنذ أوائل نزول الوحي، دُعي محمد عليه السلام إلى أن ينأى بنفسه عن مضطهديه وعن الشر؛ قال الله تعالى: “وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا ” وقال: “وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ”. وعن دعوة ابراهيم عليه السلام قال: “فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ ۘ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَىٰ رَبِّي ۖ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ”.
الهجرة إذاً هي منفى الضمير والقلب من الآلهة المزيفة، وهي: “أن تهجر الشر” كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم.
كانت هجرة المسلمين إلى المدينة هجرة روحية إلى داخل ذواتهم، ففي ترك مدينتهم وجذورهم عادوا إلى أنفسهم، إلى قربهم من الله، إلى معنى حياتهم الذي يتجاوز الأحداث التاريخية الطارئة. الهجرة الروحية إذاً هي التي تعيد الفرد إلى نفسه وتحرره من أوهام الذات والعالم. إنّ الهجرة في سبيل الله هي من حيث الجوهر؛ سلسلة من الأسئلة التي سوف نُسأل عنها: من أنت؟ ما معنى حياتك؟ إلى أين أنت ذاهب؟
السؤال كطريقة للحوار:
كان النبي عليه السلام طيلة بعثته يستشير أصحابه ويشجعهم على الإعراب عن آرائهم ويعيرهم انتباهه الكلي، وكان النبي صلى الله عليه وسلّم قد استحدث أيضا أسلوبا تعليميا حقيقيا أتاح للمسلمين تطوير مواهبهم النقدية والتعبير عنها، وأن ينضجوا في وجوده. كان كثيرا ما يطرح أسئلة عن مختلف المواضيع ولا يعطي الإجابات إلا بعد أن يكون اصحابه قد أعملوا فكرهم وأعربوا عن تخمينات مختلفة.
التربية الروحية:
قد واجه النبي عليه السلام المرة تلو الأخرى مثل تلك النزاعات بين أصحابه، وفي كل مرة كان الوحي أو النبي عليه السلام نفسه يذكّرهم بأنّه يتعيّن عليهم أن يسألوا أنفسهم عما كانت عليه نواياهم: هل كانوا يسعون وراء الثروة في هذه الدنيا أم السلام في الآخرة؟ كانوا ولا يزالون بشرا، بنقاط ضعفهم والإغراءات التي يتعرضون لها، كانوا بحاجة إلى من يذكّرهم وإلى تربية روحية وإلى الصبر.
وكما هي حال كلّ شخص؛ أكان قريبا من النبي عليه السلام أو في أي زمن من التاريخ البشري، كانوا بحاجة إلى من يذكرهم وإلى التربية الروحية، فالتاريخ يُنبئنا بأنّه لا ينبغي أن يُعتبر أيّ أحد قد بلغ مرتبة الكمال المثالي.
اللطف، الاهتمام، الحب:
قد ظلّ محمد صلى الله عليه وسلم في حياته اليومية، برغم انشغاله بالهجمات والخيانات وتعطّش أعدائه للثأر؛ يهتم بالتفاصيل الصغيرة في الحياة، وبتوقعات من حوله، ويجمع دائما بين الصرامة وسماحة الأخوة والغفران..
النبي واليقظة والتخطيط الدائمين:
لقد غيّر الانتصار على الأحزاب والحملة ضد بني قريظة؛ الوضعَ في الجزيرة، حيث تم الاعتراف بقوة النبي عليه السلام وأصحابه، فالبعض مثل الفرس والبيزنطيين كانوا يتحدثون عن محمد عليه السلام بوصفه ملك العرب القوي، حيث إنّهم وجدوا فيه قوة إقليمية مرهوبة الجانب، وكان محمد عليه السلام عندما تأتيه استطلاعات استخباراتية بوجود خطر، لا يتردد في إرسال الحملات إلى القبائل القريبة بغية استباق أيّ محاولة للتمرد أو الهجوم، وليوضح بذلك للعشائر المجاورة بأن مسلمي المدينة هم دائما في حالة اليقظة والاستعداد للدفاع عن أنفسهم.
فالطبيعة هي الدليل الأساسي والرفيق الحميم للإيمان.. هذا النوع من التربية والتعليم البعيد جدا عن شكلية الطقوس الدينية الخالية من العنصر الروحي، ينشئ ويعزّز علاقة صلة بالله تقوم على أساس التأمّل والعمق اللذين سيجعلان من الممكن لاحقا، في مرحلة ثانية من التربية الروحية، فهم مغزى الطقوس الدينية وشكلها وأهدافها. ففي انفصالنا عن الطبيعة، فإننا على ما يبدو قد نسينا معنى هذه الرسالة لدرجة أننا نقلب بشكل ينطوي على الخطر ترتيب المقتضيات، ونؤمن بأنّ تعلّم أساليب الدين وأشكاله يكفي للتوصل إلى معناها وأهدافها. هذا الوهم يؤدي إلى عواقب كبيرة إذ إنّه يقود إلى تفريغ التعاليم الدينية من جوهرها الروحي، الذي يجب أن يكون في الواقع قلب هذا الجوهر.
القيم الإنسانية سابقة للتشريع الإسلامي:
أو كما قال الرسول عليه السلام: “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”. فالإسلام لا يقيم عالما مغلقا للمرجعية بل يعتمد على مجموعة من المبادئ الشمولية التي يمكن أن تتطابق مع أسس وقيم ومعتقدات وتقاليد دينية أخرى. ففي وقت كانت فيه الرسالة لا تزال تتكامل خلال مجرى الوحي وتجارب النبي عليه السلام، فإنه قد اعترف بصلاحية حلف الفضول الذي أقامه أناس غير مسلمين، بل وثنيّون ينشدون العدالة والصالح العام لمجتمعهم. إنّ قول النبي عليه السلام هو بحد ذاته إنكار صريح للمنحى الفكري الذي يجري التعبير عنه في تاريخ الفكر الإسلامي، والذي لا يمكن بموجبه لعهد أن يكون صالحا من الناحية الأخلاقية إلاّ إذا كان ذا طبيعة إسلامية صرفة.
الهجرة:
قال الله تعالى: “وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً ۖ وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ، الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ”
المنفى إذا هو امتحان آخر للتوكل على الله، فقد تعرّض جميع الأنبياء إلى هذا الامتحان القاسي للقلب.. فإلى أيّ مدى يستطيعون المضيّ، وإلى أيّ مدى هم مستعدون للعطاء من أنفسهم وحياتهم للواحد الأحد والثقة به ومحبته؟
لقد كانت الهجرة، في الواقع تقتضي أن يتعلّم المسلمون الأوائل كيف يظلّون أوفياء لتعاليم الإسلام رغم تغيّر المكان والثقافة والذكريات.. كان على جماعة المؤمنين في سعيهم للاقتداء بالنبي، أن يميزوا بين ما يخص المبادئ الإسلامية، وما يتصل بشكل أخص بالثقافة المكية، وقد ظلوا أوفياء للأولى والعمل على اكتساب منهج مرن ونقدي إزاء ثقافتهم الأصلية.
الهجرة هي أيضا الشعور بالتحرر التاريخي والروحي على حد سواء، فقد حرر موسى عليه السلام شعبه من اضطهاد فرعون وقادهم إلى الإيمان والحرية، إذ أن جوهر الهجرة من الطابع نفسه تماما.
إن البعد الروحي لمعنى الهجرة قريب وفي المتناول، فمنذ أوائل نزول الوحي، دُعي محمد عليه السلام إلى أن ينأى بنفسه عن مضطهديه وعن الشر؛ قال الله تعالى: “وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا ” وقال: “وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ”. وعن دعوة ابراهيم عليه السلام قال: “فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ ۘ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَىٰ رَبِّي ۖ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ”.
الهجرة إذاً هي منفى الضمير والقلب من الآلهة المزيفة، وهي: “أن تهجر الشر” كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم.
كانت هجرة المسلمين إلى المدينة هجرة روحية إلى داخل ذواتهم، ففي ترك مدينتهم وجذورهم عادوا إلى أنفسهم، إلى قربهم من الله، إلى معنى حياتهم الذي يتجاوز الأحداث التاريخية الطارئة. الهجرة الروحية إذاً هي التي تعيد الفرد إلى نفسه وتحرره من أوهام الذات والعالم. إنّ الهجرة في سبيل الله هي من حيث الجوهر؛ سلسلة من الأسئلة التي سوف نُسأل عنها: من أنت؟ ما معنى حياتك؟ إلى أين أنت ذاهب؟
السؤال كطريقة للحوار:
كان النبي عليه السلام طيلة بعثته يستشير أصحابه ويشجعهم على الإعراب عن آرائهم ويعيرهم انتباهه الكلي، وكان النبي صلى الله عليه وسلّم قد استحدث أيضا أسلوبا تعليميا حقيقيا أتاح للمسلمين تطوير مواهبهم النقدية والتعبير عنها، وأن ينضجوا في وجوده. كان كثيرا ما يطرح أسئلة عن مختلف المواضيع ولا يعطي الإجابات إلا بعد أن يكون اصحابه قد أعملوا فكرهم وأعربوا عن تخمينات مختلفة.
التربية الروحية:
قد واجه النبي عليه السلام المرة تلو الأخرى مثل تلك النزاعات بين أصحابه، وفي كل مرة كان الوحي أو النبي عليه السلام نفسه يذكّرهم بأنّه يتعيّن عليهم أن يسألوا أنفسهم عما كانت عليه نواياهم: هل كانوا يسعون وراء الثروة في هذه الدنيا أم السلام في الآخرة؟ كانوا ولا يزالون بشرا، بنقاط ضعفهم والإغراءات التي يتعرضون لها، كانوا بحاجة إلى من يذكّرهم وإلى تربية روحية وإلى الصبر.
وكما هي حال كلّ شخص؛ أكان قريبا من النبي عليه السلام أو في أي زمن من التاريخ البشري، كانوا بحاجة إلى من يذكرهم وإلى التربية الروحية، فالتاريخ يُنبئنا بأنّه لا ينبغي أن يُعتبر أيّ أحد قد بلغ مرتبة الكمال المثالي.
اللطف، الاهتمام، الحب:
قد ظلّ محمد صلى الله عليه وسلم في حياته اليومية، برغم انشغاله بالهجمات والخيانات وتعطّش أعدائه للثأر؛ يهتم بالتفاصيل الصغيرة في الحياة، وبتوقعات من حوله، ويجمع دائما بين الصرامة وسماحة الأخوة والغفران..
النبي واليقظة والتخطيط الدائمين:
لقد غيّر الانتصار على الأحزاب والحملة ضد بني قريظة؛ الوضعَ في الجزيرة، حيث تم الاعتراف بقوة النبي عليه السلام وأصحابه، فالبعض مثل الفرس والبيزنطيين كانوا يتحدثون عن محمد عليه السلام بوصفه ملك العرب القوي، حيث إنّهم وجدوا فيه قوة إقليمية مرهوبة الجانب، وكان محمد عليه السلام عندما تأتيه استطلاعات استخباراتية بوجود خطر، لا يتردد في إرسال الحملات إلى القبائل القريبة بغية استباق أيّ محاولة للتمرد أو الهجوم، وليوضح بذلك للعشائر المجاورة بأن مسلمي المدينة هم دائما في حالة اليقظة والاستعداد للدفاع عن أنفسهم.
بارك الله يا أستاذ
بوركت يا أستاذ طارق رمضان وجزاك الله خيرا…كتاب رائع ننتظرمنك إن شاء الله المزيد في مجال الروحانيات !
اللهم صل وسلم وبــارك على سيدنا محمد افضل الخلق خاتم الانبياء والمرسلين وعلــى آله وصــحبــه اجمعيــن !
jazak alahu khayran doctor tariq wa doctor zouhir
Salam 3alkom,
Can you please tell me if you have digital verison of the book that I can buy.
Salam,
Anis
الكتاب موجود ورقيا في دار العبيكان للنشر والتوزيع ووكلائها حول العالم:
http://obeikanpublishing.com:9090/ar/web/guest/home?p_p_id=Finalzip_WAR_Finalzip&p_p_lifecycle=0&p_p_state=normal&p_p_mode=view&p_p_col_id=column-1&p_p_col_pos=1&p_p_col_count=2&_Finalzip_WAR_Finalzip_phpURI=distributorbookstore.php
وموجود إلكترونيًا أيضًا:
http://www.neelwafurat.com/itempageTablet.aspx?id=lbb197895-169334&search=books