براءة شعرة معاوية
بقلم فدوى حلمي
رُويَ عن سيّدنا معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما أنّه قال وهو أمير المؤمنين آنذاك: « لو أنّ بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت. قيل: وكيف، يا أمير المؤمنين؟ قال: كانوا إذا مدّوها خلّيتها، وإذا خلّوها مدّدتها ». بعيداً عن البحث في تخريج الأثر وصحة نسبة الرواية لصاحبها، إنّما الحديث عن طريقة الاستشهاد بالنّص السابق وكيفية توظيفه مع التشديد على أنّه ليس بآية قرآنية ولا بحديث نبويّ صحيح، بل هو مفهوم ديبلوماسي نُسب لأمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان في أسلوب تعامل الحاكم مع الرعيّة، بإبقاء رابط وجسر قويّ على أي مستوى يربط الحاكم بشعبه يضبط مسارات الصراع السياسي بين السلطة ومُختلف القوى حولها، هذه الشعرة يراها جمع من الأنظمة الحاكمة بمعناها الحرفي كخيط دقيق يُرى بصعوبة ومشقّة هو سهل السقوط وكثير الميل، وبعض الشعوب ظنّت بأنّها هي وحدها المُلزَمة بالمحافظة على هذه الشعرة بل وتحويلها إلى ضفيرة متينة في سبيل الإبقاء على روابط الرضا والاستحسان من الحاكم للمحكوم، فاختلطت أوراق المداراة بأوراق المداهنة في خطابات الإصلاح السياسي، و اِلتبس جُرم الركون إلى الظالم بفضيلة الصبر، وأصبح كل ما يُخالف مصلحة الأنظمة الحاكمة باب لجَلب الفتن يجب الإسراع بسدّه، وهكذا ضُيّق على المظلوم والمُصْلِح وفُتّحت الأبواب لدعاة الاعتدال تحت فلسفة شعرة المعاوية بعدما قُوّض مدلولاها وغايتها.
شعرة معاوية في ردائها الجديد تستوعب المفسدين والطغاة خاصّة إذا ما تمّ إسناد ذاك الرداء بذريعة الواقع الحالي الذي لا يُمَكِّن دعاة الإصلاح من الارتقاء بآمال شعوبهم، كما لا يمكّنهم من تحمّل تبِعات أي عملية إصلاحية مُتعارضة مع أنظمتها في الجوهر والشكل لبنية الفساد والاستبداد، لذا فهم يجتهدون وجزء منهم بحسن نيّة في الحصول على بعض المستحقّات الأساسيّة لشعوبهم في ظل الظروف التي فرضها واقعهم، وفي سبيل الحصول على بعض ما هو حقّ تمّ التفريط بالكثير من الثوابت الشرعيّة الإسلامية والثوابت القانونية المتعارف عليها، واستطاع دعاة الاعتدال الجُدد إيجاد أرضية واحدة تجمع بين الفاسد والصالح فوق منبر واحد عنوانه النّهوض بالوطن! هذا التحوّل الجذري في مفهوم الإصلاح أوجد القابلية للاستسلام الطوعي لواقع صنعه المفسدون والبغاة وإرغام أيّ مصلح للتعامل مع ذلك الواقع المصطنع على أنّه الحالة الأصل التي يجب أن يرسم طموحاته ضمن حدودها ولا يعمل على تغيير أصولها.
ليس المقصد تقييم فلسفات المشاريع الإصلاحية على اختلاف مناهجها فالواقع الذي نعيشه كفيل بهذه المهمة ولا جدوى من الوصف، لكن المقصد إلى أيّ مدى مُستعد البعض لمدّ شعرة معاوية وكم ستتحمل تلك الشعرة؟ وما هي الخطوط الحمراء التي لن يقبل المُصْلح تجاوزها في موجات المدّ والجزر بين حقوق الشعب ومصلحة السلطة الحاكمة؟ فعلى سبيل المثال إنّ تأييد بعض الدعاة والمصلحين لسفك الدماء أو انتهاك الأعراض أو ضرب آخر معاقل المقاومة المسلّحة في فلسطين لا يُمكن تبريره بمرحلة المدّ التي سيعقبها الشدّ، فإنْ لم تكن تلك هي الخطوط الحمراء الداعية للحزم فما سواها لن يكن كذلك، ولا علاقة لمنهجية الإصلاح السلمي المتدرج بالصورة المشوّهة المتداولة لشعرة معاوية التي مسخت المواقف وأراقت ماء الوجوه على بلاط الساسة، ففي الحديث الشريف في مسند الإمام أحمد رضي الله عنه: « إذا رأيتم أمتي تهاب الظّالم أن تقول له:إنّك أنت ظالم، فقد تُوُدِّعَ منهم »، فكيف بمن يمدح الظالم ويثني عليه ويبيت في كنفه! إنّ على أيّ مشروع إصلاح سياسي مهما أراد أن يمُدّ شعرة معاوية ألا يتنازل عن قيم الحرية والعدالة ومحاربة الفاسد وكل قيمة هي أصل في تعريف كرامة الإنسان، وفقاً للقاعدة الفقهية المقررة (الميسور لا يَسقط بالمعسور، ولا يُترك المقدور بالمعذور) وتطبيقها في الإصلاح السياسي يعني أنّ كل ما يمكن تحقيقه على مستوى الفرد أو الجماعة من إصلاح وخير للأمّة يجب إقامته والإقبال عليه ولا يُعذر القاعد بحجّة تعسّر الغالب من تلك الأمور، لكن لا يُعقل أن يبلغ الانحراف في مسالك بعض المصلحين والدعاة إلى حدّ استواء مفاهيم النور والظُلمة!
Tout ce qui est spirituels est bon à savoir,surtout quand on en tire un enseignement.