اغتيال الديمقراطية في فلسطين

اغتيال الديمقراطية في فلسطين*
يبدو جليا أن الشعب الفلسطيني لم يجن شيئا من المنجزات الديمقراطية التي يحتفل بها العالم اليوم. فعندما جرت أول انتخابات حرة و شفافة و ذات مصداقية في الأراضي المحتلة سنة 2006، و التي حظيت بالإجماع ثم توجت بفوز حركة حماس، كان هذا الانتصار الديمقراطي كافيا لإدخال الشعب الفلسطيني في أزمة سياسية لم يجد سبيلا لإنهائها. لقد اختار الشعب الفائز السيء، فتمت معاقبته بشكل كبير ومنظم بسبب هذا الخيار. فانتخاب « الإرهابيين » للوصول إلى سدة الحكم، أعطى الحق لإسرائيل التعامل مع الشعب الفلسطيني كشعب إرهابي، فشنت إسرائيل حملة واسعة من الاعتقالات و التعذيب و التصفيات ، و غارات جوية منتظمة دون أن ننسى الإذلال اليومي في نقاط التفتيش أمام قوات الاحتلال، و أمام جدار الفصل العنصري الرهيب. كم جميل هذا الانتصار الديمقراطي! تدعى إلى الانتخابات في أجواء الحرية و ينتهي بك الأمر سجينا في الهواء الطلق.
لم ينته الأمر إلى هذا الحد. فما يسمى بمسلسل السلام لم يف بوعوده، مما أدى إلى تعليق الحوار الذي فقد كل أسباب وجوده في الوقت الذي تستمر فيه الحكومة الإسرائيلية و المستوطنات في عمليات الاستيطان بشكل بطيء، الشيء الذي يجعل فكرة إقامة الدولتين طوباوية. في حين أن الرئيس الأمريكي باراك اوباما، الذي يطمع في جائزة نوبل للسلام ،لم يصنع شيئا سواء للسلام أو للشعب الفلسطيني، إلا إذا استثنينا بعض الخطابات الظرفية. بل ذهب أبعد من ذلك، فقد كان يقدم الدعم الأحادي لإسرائيل أكثر من أسلافه. و حتى يضمن ولاية رئاسية جديدة بمناسبة الانتخابات الديمقراطية القادمة، ترك الفلسطينيين يواجهون مصيرهم بأنفسهم. فضمان ولاية رئاسية مبرر كاف للسكوت على المجازر التي تقترف ضد العرب في فلسطين، تماما كما يحدث في سوريا. و يمكن من جهة أخرى أن نفسر هذا العنف في الأيام الأخيرة ، و الذي يتمثل في القصف الجوي و التصفيات و قتل العشرات و قريبا المئات من المدنيين، بالانتخابات « الديمقراطية » الوشيكة التي ستجرى في إسرائيل. فقتل الفلسطينيين و نشر إسرائيل قواتها العسكرية هو الضامن الأساسي للنجاح في الانتخابات بالنسبة للوزير الأول بنيامين نتنياهو. و ما تقشعر لها الأبدان ،هي هذه النتائج الإيجابية للانتخابات الديمقراطية في أمريكا و إسرائيل عندما تعطي الضوء الأخضر للقتل أو عندما تقتل لتفوز.
إننا نأمل في الأنظمة التي تم انتخابها ديمقراطيا بعد الصحوة العربية ألا تتمسك فقط بالمظاهر. وبالتالي يجب علينا أن نرحب بإرسال وزراء خارجية كل من مصر (١) وتونس، كما نرحب أيضا بالموقف الحازم لرئيس الوزراء التركي اردوغان سنة 2008 ،فهذه إشارات قوية تدل على أن الأمور بدأت تتغير ، وأن الحكومات بدأت تتخذ مواقفا أكثر انسجاما مع شعوبها. لكن رغم ذلك، تبقى هذه الخطوات معزولة على المستوى الوطني ، و لا ترقى إلى مستوى استراتيجية إقليمية منسقة يمكن أن يكون لها تأثير حقيقي على تطور الأوضاع. يمكن أن يزداد تعاطف الشعوب التي مازالت تعبر عن غضبها في الشارع، و تؤيد مبادرات حكامها في تونس و مصر وتركيا ، لكن هذا التعاطف لم يحقق أية نتيجة ملموسة، فيما تواصل إسرائيل هجماتها و تحقيق اهدافها. و مرة اخرى، يصبح الفلسطينيون ضحايا استخدام قضيتهم الوطنية لأغراض شعبوية، حيث المنتخبون الجدد يدينون ،و الشعوب تتظاهر ،في حين أن الفلسطينيين ما زالوا يقتلون. إن هذه القضية تتطلب من الدول العربية شيئا آخر غير الدعم اللفظي، فمن الضروري التفكير في تحالف استراتيجي تشارك فيه الدول ( انطلاقا من الشرق الأوسط إلى أمريكا الجنوبية ، و من جنوب أفريقيا إلى آسيا) و تكون جبهة دولية حقيقية للدفاع بكل عزم و إصرار عن العدالة و حقوق و كرامة الشعب الفلسطيني المظلوم ضد العدوان الإسرائيلي و الدولي الغاشم.
من جهة أخرى، ما زالت وسائل الإعلام الغربية تؤكد بأغلبيتها الساحقة أن إسرائيل لا تقوم إلا برد فعل ضد إطلاق الصواريخ من طرف الفلسطينيين، بمعنى آخر، أن إسرائيل تملك حق الدفاع عن النفس. و هذا هو الكذب بعينه! بل إن اسرائيل تعيد إنتاج سيناريو 2008 ، في حين أن وسائل الإعلام تعيد نشر الدعاية الكاذبة للحكومة الإسرائيلية. فمنذ شهور و اسابيع، واصلت الطائرات والطائرات بدون طيار التحليق في سماء غزة، و واصلت ترويعها للسكان و استهدافها لبعض الأهداف. ففي أكتوبر شنت إسرائيل لأربع مرات غارات على غزة، دون رد فعل من جانب السلطة الفلسطينية جراء هذا الاستفزاز، حتى تم قتل طفل بعد اقتحام الاراضي الفلسطينية. فتم إطلاق صاروخ اعقبتها هدنة بين الطرفين عشية تصفية أحمد الجعبري القيادي في حماس. إسرائيل تهجم، تقتل، و تستفز في صمت، و في الأخير تسوق نفسها في وسائل الإعلام أنها ضحية تدافع عن نفسها. و في الواقع، هذا السناريو شبيه بسناريو 2008 الذي قتل فيه ما يقرب من 1500 فلسطينيا. إذن الفلسطينيون بهذا المنطق هم المعتدون، إضافة أنهم يختارون اللحظة المناسبة للهجوم و التي تتوافق مع حاجة نتانياهو لهذه الحرب لكسب الانتخابات. يالها من حسابات جهنمية و ساخرة!
إن العالم العربي يشهد اليوم حالة من الضعف و عدم الاستقرار. فالحرب الأهلية في سوريا (حيث اتفقت أطراف المجتمع الدولي على ألا تتفق و تركت الأوضاع تزداد تدهورا)، و التوتر في لبنان، و الموقف الإيراني الملتبس ، و عدم الاستقرار في تونس ومصر و اليمن و الأردن، إضافة إلى الدكتاتوريات السابقة، كلها عوامل تعيق كل الجهود المتظافرة. و في المقابل، تستفيد إسرائيل من هذا الوضع و تواصل تحقيق مشروعها بفرض سياسة الأمر الواقع، عن طريق عزل غزة و تجاهل مطالب محمود عباس، و مطاردة المقاومين ، والاستمرار في الاستيطان مرة أخرى، إلى حد يصبح فيه الحل السلمي مستحيلا. فالحكومة الإسرائيلية لا تريد السلام، بل تريد فقط كسب الوقت كما يعبر عن ذلك بكل وقاحة بعض أعضاء دواوين الحكومة الإسرائيلية.
لقد نجح العقل الغربي الذي يزعم أنه يتغذى على قيم التنوير و المساواة الأساسية لجميع البشر، في تطبيع الفكرة التي تأكد أن الدم العربي أقل قيمة من نظيره الإسرائيلي و من دم الأطفال و النساء و الرجال في الدول المهيمنة. و يجب أن نشير أن هذه العنصرية المفروضة -بموجب القانون أو بشعور مشترك غير رسمي- هي الأساس الذي قام عليه الاستعمار كما هو الشأن بالنسبة لنظام الفصل العنصري. لقد غذت هذه العنصرية المشروع الصهيوني بهذه القيم ، و بالتالي نراه الآن ينتشر و يؤثر على السياسات الحكومية لدول الشمال و وسائل الإعلام، و يؤثر كذلك على المشاعر العامة السائدة، و بالتالي يتم تصنيف البشر حسب المواقف، موال أو خصم للمشروع، فيتم التعامل مع الفئة الأولى كونها أكتر قيمة من الآخرين.
إن العودة محفوفة بالمخاطر، فعصرنا الحالي غير آمن. و بالتالي من المفروض على دول الجنوب أن ترفض منطق الاستكبار ، كما يجب على كل من يملك ضميرا حيا أن ينهض و يؤكد أن السكوت على قتل فلسطيني بريء جريمة. و لقد حان الوقت للعمل الجدي بدل الخطابات الجوفاء عن طريق المقاطعة الاقتصادية، و فرض عقوبات في إطار تحالفات وازنة، و حشد الجماهير ،و التحرك ،و المقاومة ، و تبليغ الرسالة إلى إسرائيل أن غطرستها و صممها اليوم ستكونان سببا في هزيمتها غدا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*هذه المقالة مترجمة عن المقالة المنشورة بتاريخ ٢٠ نوفمبر ٢٠١٢ والموجودة في الرابط التالي:
http://tariqramadan.com/english/2012/11/20/palestine-when-democracy-kills/
ترجمة الأستاذ صلاح شياظمي

(١) وكان ذلك قبل الانقلاب العسكري. (المترجم).

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا