التوحيد: عبادة الله وحده والتقرب إليه وحده
انتصف رمضان، ومازلنا نحاول أن نتبع خطى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في صيامه وتعاليمه والقيم الأساسية التي يدعو إليها الإسلام. هذه القيم كلها مبنية على أصل واحد وهو التوحيد: لا إلله إلا الله. وهذا الأصل يعني أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به آلهة غيره، ومفهوم ذلك على البعد الروحي يعني التخلي عن الآلهة الدنيوية في قلوبنا من مال وسلطة وشهرة أو غير ذلك. والصيام يساعدنا على أن نكسر هذه الآلهة بكسر العادات التي تؤدي إلى إدمانها. فعبادة الله وحده تقتضي عدم اتباع غيره والاستقلال عن كل ما سواه؛ لأننا نعمل من أجل رضاه وحبه فحسب. فالتوحيد إذن معناه عبادة إله واحد بالتقرّب إليه والبعد عن غيره. فلنسعى أن تكون رحلتنا في الحياة للتقرب إليه، كما قال تعالى: “وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ.“
العائلة:
مكانة السيدة خديجة رضي الله عنها في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلّم قبل وبعد الرسالة تعلمنا الكثيرعن الدورالمهم للعائلة في حياة كل فرد منا. فقد كانت له سندًا وحماية، ومن أجل الأمثلة على ذلك تثبيتها لثقته بالله تعالى وبنفسه في قولها له عندما تأخر عنه الوحي: « والله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتطعم الجائع، وتكسو العاري، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتصل الرحم، وتعين نوائب الدهر »، فكان ذلك تطبيقًا لمعنى قوله تعالى: « ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها. »
فعلينا أن نفهم أنّه على الرغم من أن الطريق إلى الله تعالى هو طريق روحي فردي يمشيه كل منا بنفسه، كالصيام فهو تجربة روحية فردية إلا أن لمن يمشون بجوارنا هذا الطريق أهمية كبيرة، فالـ « السكن » الذي نجده في أزواجنا وعائلتنا هو ما يعيينا على ذلك « هن لباس لكم وأنتم لباس لهنّ ». وشهر رمضان شهر عائلي ينبغي أن نتذكر فيه هذا المعنى المهم.
الحياة الأولى والحياة الآخرة
الموت حق، ولكن ما الذي ينبغي أن نتعلمه من ذلك؟
١- أن نعي أن هذه الحياة منتهية وأننا لن نبقى هنا: “كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام”
٢- أن نتذكر أننا مسؤولون عن ما نفعل وسوف نُسأل عنه، ولا بدّ أن يتجلّى هذا المفهوم في حياتنا وأعمالنا
٣- أن لهذه الحياة معنى، فنحن لسنا هنا عبثا، بل نحن نعرف لماذا نحن هنا وأين سنذهب بعدها: إنا لله وإنا إليه راجعون
٤- أن الجنة والنار حق، ولكن العمل من أجلهما هو درجة أدنى من العمل للتقرب إلى الله تعالى وحده، فلا يكون إيماننا كإيمان التاجر -وهو صحيح- ولكن أن نأمل في أبعد وأرقى من ذلك، وهو أن يكون أملنا هو نظر الله كما في الدعاء: اللهم متعنا بالنظر إلى وجهك الكريم
فالحياة معاناة للمنكبّين عليها الذين لا يرون غيرها، أما مَن يرجون لقاء الله بقلوبهم وعقولهم فالحياة بالنسبة لهم اختبار.
السلام والمقاومة
كان النبي صلى الله عليه وسلم داعيا للسلام مصلحا بين الناس في دعوته وهذا تطلب الكثير من الصبر والمقاومة والثقة بالله تعالى، وهذا ما أوصى به أصحابه والذين آمنوا معه كما في قصة آل ياسر وقد عانوا ما عانوا من ظلم وتعذيب فجاءت كلمته: “صبرا آل ياسر إن موعدكم الجنة” وغير ذلك من نماذج نرى فيها المقاومة بقوة الإيمان تنجح على الظلم والظالمين. وبينما نتذكر غزوة بدر في السابع عشر من شهر رمضان المبارك، نرى نموذج آخر من نماذج المقاومة حيث يقاوم النبي وصحابته هجوم مشركي مكة عليهم الذين أرادوا القضاء على الإسلام، فبغلبهم المسلمون بإذن الله.
فلا بدّ أن نتذكر أننا نسعى للسلام ولكننا أيضا سوف نقاوم أولئك الذين يسعون للظلم والعدوان. فالمقاومة واجبة بكل وسائل السلم ولكن إن اختار الظالمون الحرب والأسلحة، فلنا حق الرد لنحافظ على أنفسنا. الظالمون هم مَن يختارون الوسائل والمقهورون لا يجدون بأيديهم إلا خيار المقاومة للبقاء أحياء، فالقاعدة الإسلامية إذن: الأصل هو السلام والمقاومة ضرورة.
الجهاد الإصلاحي
مفهوم الجهاد من المفاهيم الإسلامية التي أُسيء فهمها ليس من قِبَل غير المسلمين والمستشرقين فحسب بل من قِبَل المسلمين أنفسهم، فضيقوا مفهوم الجهاد وحصروه في القتال، وهذا ليس صحيحا. الجهاد هو مجاهدة النفس بدافع إصلاحها للوصول إلى أعلى درجات الإيمان. فالمجاهدة والإصلاح هما أساس مفهوم الجهاد، ونجد ذلك في القرآن الكريم، قال تعالى: « فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا » حيث تشير الآية إلى القرآن الكريم، فهو سلاح العقل والروح. والصوم تجتمع فيه هذه المعاني الجهادية: فأنت تجاهد نفسك وطبيعتك البشرية بالإمتناع عن احتياجاتها الطبيعية للوصول إلى احتياجاتها الروحية.
العشر الأواخر وليلة القدر
بينما نتحرى ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان -وليس في ليلة السابع والعشرين فحسب كما يظن بعضهم- علينا أن نستحضر أن في هذا التحري وهذا البحث عن الليلة التي هي خير من ألف شهر بعد تعب ومشقة الصيام لعشرين يوما رسالة للثبات والإستعانة بالله تعالى لتجاوز المعاناة والتحكم في المشاعر والتمسك بالمبادئ والإنضباط في التعامل مع الأحكام.
وهذا درس يفيد في ما يجده بعضنا من نشاط وحماس في بداية كل أمر يخفت نوره بعد مرور الوقت فلا يكون قدر الحماس كما كان في البداية، وهنا لا بدّ أن نعيد شحن أنفسنا بالنشاط، وهذا ما يفعله تحري ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان.
المساجد
نحن نعرف أن أول ما فعل النبي صلى الله عليه وسلّم إلى المدينة عقب وصوله إلى يثرب (المدينة المنورة) هو بناء المسجد. وبناء المسجد قد عنى الكثير من الأمور، أهمها هو بناء مركز لحماية الجماعة المسلمة تجتمع فيه، ويستوي في ذلك النساء والرجال، فلم يكن المسجد مساحة محصورة على الرجال.
المهمة الثانية للمسجد هي التعليم الديني والروحي بهدف بناء البيئة الدينية جنبا إلى جنب البيئة العلمية.
المهمة الثالثة هي الحفاظ على النسيج المجتمعي والتواصل، فالمسجد مكان يلتقي فيه المسلمون، ويصطف خلفه المحتاجون -كما كان من أهل الصُّفة حول مسجد النبي. وهذا يبيّن أن للمسجد دور مجتمي مهم. فالمسجد كمساحة دينية إذن يخدم الحضور الروحي والعلمي والمجتمعي للمسلمين.
ونحن في رمضان نرتاد المساجد أكثر من أي وقت آخر، وعلينا أن نعمل على إعادة بناء هذه الأدوار التي قصدها النبي صلى الله عليه وآله وسلم ببنائه مسجد المدينة، فنتعلم أن لنا دور في البناء العلمي بالتعليم والديني بالدعوة والمجتمعي بتوفير الخدمات والمساعدة لأخواتنا وإخواننا من المسلمين وغير المسلمين. هكذا نتمكن من تحقيق حضور نبيل للمساجد يتسم بالطهارة الروحية والإنسانية والكرامة والإعانة.
الهجر الجميل
بقدر ما يجب علينا النظر في العالم المحيط بنا، يجب علينا النظر في أنفسنا؛ فرحلة الإيمان تتطلب اتزانا بين الداخل والخارج، بين النفس والآخر. الهجرة والعزلة بأنفسنا تمنحنا قدرا من الحماية والسمو النفسي الذي يمكننا من ذلك، قال تعالى: « واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا، » والهجر الجميل هو الهجر النبيل الخلوق الذي نحمي به أنفسنا من العالم الخارجي فتكون قلوبنا مساجدنا، لا الهجر الذي يكون بالصد والرفض للناس وإظهار البغضاء والاستعلاء. والهجرة أيضا تكون من المعاصي، قال تعالى: « والرجز فاهجر » أي فاهجر الذنوب والمعاصي حولك، وفي بعض الأحيان، الظروف السيئة كالفقر والقهر كذلك، قال تعالى: « ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها ». والصوم هجرة، فتهجر أجسادنا الأكل والشرب لكي نتمكن من النظر الأعمق فيما يجب أن تهجره أرواحنا من آفات.