إن فراغ الساحة و غياب الأجهزة المعنية بالشأن الديني عن لعب دور التوجيه و التنبيه و الإرشاد، لَمِن أعظم الأسباب وراء استفحال ظاهرة التطرف و الخروج عن الأمة من جهة، و من جهة أخرى بفساد ذمم العامة و الخاصة، و تآكل الهمم عند قوم يجعلون من الدين شأنا ومن الدنيا شأنا آخر، فعندهم الأول يرتبط بالغيب منفصل عن الواقع المادي، و الثاني يتصل به منفصل عن العالم الغيبي.
فكثرت في بلاد المسلمين الفتن و النعرات القومية و الاصطفافات المذهبية و تنامي الفصائل « الجهادية » و التنظيمات التكفيرية، ممن يختبئ أصحابها خلف ظلال الدين الوارفة، و يسلكون مسلك الخارج عنه باتخاذهم منهاجا بدعة القتل بالشبهة و على الهوية، و التكفير دون دليل، و تهجير الآمنين، و قتل الأسرى و التمثيل بالجثت…إلى غير ذلك من فظاعاتهم المرتكبة في حق الإنسان و الإنسانية، و قبل ذلك في حق الدين و التدين. وقد صار مذهبهم في انتشار و تمدد، حتى صار التشبث بعرى الدين غلوا و تشددا، و صارت قيم المحافظة رجعية و تزمتا، هذا حتى صار في أعين أعداء الداخل و الخارج كل ملتح متطرفا، و كل امرأة متحجبة قنبلة موقوتة، و كل مقاوم إرهابي…
وقد سرى في بدن الأمة، سريان السرطان في الجسد الواهن، فكر يقابل الأول في تشدده و غلوه، و لا يقل عنه خطورة و تهديدا لسلم مجتمعاتنا الإسلامية و تماسك مكوناتها، فبلغ فصل الدين عن أمور الدولة مبلغا عندهم حتى كاد أن يصير مسلكهم إلحادا، و تحولوا من عبادة الخالق ليخلصوا لأهواء أنفسهم و يعكفوا عليها عُباّدا، و لم يكتف هؤلاء بنشر فكرهم المُغرِّب في كتبهم و منابرهم النخبوية و الصحفية، و لا بجمعياتهم التي تتصدر للدفاع عن حقوق الإنسان كما يزعمون أنها « كونية »، لا بل و تجاوز اجتهادهم حد إصدار الفتاوى و التحدث عن حلول فقهية تحت ذريعة إعادة قراءة النص الديني، و هو حق يراد به باطل، فطال من جملة ما طال إفسادهم بعض الأحكام القطعية والواضحة الدقيقة و غير المفتوحة على التآويل. معللين ذلك بحتمية تحول المجتمعات الإسلامية إلى مجتمعات « عصرية » و « ديموقراطية » على شاكلة نظيرتها الغربية، فيراد لتحولها أن يكون تحولا لا دينيا و ماديا محضا… !
لهؤلاء ولأولئك منابرهم، ينشرون من خلالها أفكارهم، ويجلبون بها المريدين لطرقهم، و يجيشون الأنصار لحروبهم الافتراضية و و على أرض الواقع على السواء…، فيستغلون ضياع شباب الأمة بين زوايا ثالوث الفقر و الجهل و انسداد الأفق، يغسلون أدمغتهم ويمنونهم حينا بجنة الخلد و الحور العين خلاصا لهم من ضنك العيش وقسوة الحياة، و لا سبيل لذلك بالطبع إلا جهادهم بأنفسهم، و كأن لا جهاد إلا جهاد النفس! و حينا آخر يعددون لهم الوعود في غد أمثل و مجتمع أفضل و عيش أرغد، و يمنونهم بمجتمعات دون قيد متملصين فيها من القيم و الأخلاق و الموانع بعيدا عن الشرائع، فكل أمر مباح مادام متاحا!
بين ترك الدنيا من أجل المقام الموعود في آخرة الخلود، و بين الجحود بالغيبي و الإيمان بدنيا المادي المرئي و الموجود، يضيع الشباب المغرَّر بهم و تضاف إلى تيههم تغريبة أخرى في الزمن و المكان. و أين أصحاب العلم و الرأي من هذا كله؟ كل يقف موقف المتفرج في أغلب الأوقات منتقدا وضعا مستعصٍ، ربما هم من يزيده استعصاء بتخاذلهم و اعتزالهم غير المبررين، هذا في حين أن الأنظمة في بلداننا لا يهمها سوى حماية أنفسها لا أوطانها و مواطنيها، مسخرة لذلك كل طاقاتها و خبراتها و موارد البلدان من أجل وهم اسمه حماية الأوطان، موارد تتبخر خارج مسلسل التنمية، فصنعوا الأحزاب صنعا، المعارضة كما الموالاة، لا لمعارضة السلطان إن هو ضل أو حاد، بل تمثيلا لمسرحية الديموقراطية، لا تكريسا لثقة الشعوب، بل لكسب رضى الجهات و المنظمات الدولية، طمعا في مال تهبهم إياه أو سلاح متهالك متقادم تمدهم به.
وامتدت سطوة الحكام حتى بلغت دور العبادة، لا رغبة منهم في الإصلاح و التجديد، بل لكسب الشرعية و زيادة في التأييد و ترسيخ السيادة، و هم بهذا يتناقضون مع ذواتهم بتشديدهم على أن المساجد ليست لمدارسة شؤون الحكم و السياسة، في الوقت الذي يتخذونها لذلك لا لغيره؛ يثني الخطباء عليهم و يعددون محاسنهم و يتجاوزون عن سيئاتهم، يدعون لهم وحدهم و على أعدائهم أجمعين؛ المناوئين لحكمهم و المتمردين عليه أو المعارضين المجاهرين أو حتى المعترضين في الخفاء من المواطنين، فابتعد الخطباء في المساجد عن تفقيه الجاهلين في أمور الدين و تقريبهم من مقاصده، و تركوا مهمتهم في إرشاد التائهين و تنبيه الغافلين…، فاقتصر جهدهم على ذكر التراث دون التطرق لإسقاطاته بصيغتها المحينة المعاصرة؛ يتحدثون عن ذكرى الغزوات الإسلامية، يؤرخون لها واصفين أطوارها و بطولات رجالاتها في القتال، و يغفلون الحديث عن مغزى الجهاد و سلوك و خلق المجاهدين، مرسخين في خلد المسلمين، وعند غيرهم، تلك الصورة النمطية عن الإسلام، و هي صورة الإسلام – السيف.
هكذا تحول رجل الدين إلى الدرع الحصين للحاكم المكين، دون إدراك منه ربما، لا يأمر بمعروف إلا لوليه، و لا ينهى عن منكر إلا إن كاد يصيبه، إلا من رحم ربي و هم قليل ! فتُرك المجال فارغا أمام كل مدع دعي ممن يأولون كلام الله و رسوله، و يحيدون به عن مقاصده تحريفا و تدليسا خدمة لمصالحهم تحت مسميات عدة يلبسونها عباءة الدين، كما يشجع أعداء هذا الدين المتربصين به بما يجعلهم متحفزين لاستغلال هفوات هؤلاء الأدعياء، سعيا منهم إلى تشويه صورة الإسلام، طامعين في ردة المسلمين الغافلين عن دينهم بهجره، و مزعزعين ثقة المقدمين على الدخول تحت فيئه المائلين لاعتناقه !
و ما يعيشه العالم الإسلامي و المسلمون في كل بقاع العالم من انقسام و تشردم و تفرق واحتلال لأراضيه و دمار لحضارته وتاريخه و استضعاف لأتباعه و استصغار لهم في أعين أعدائهم، ليس سوى نتيجة حتمية، لا محيد عنها، لـفوضى التطرفين.. !
—