ترجمة: صلاح شياظمي
لقد نشأت الأخلاقيات بعدة أشكال. فقد أتت من عوالم مختلفة، وتجد تحقيقها الكامل في استقلاليتها المزدوجة عن الموضوع الذي كان وراء نشأتها، و عن مجال التطبيق. رغم ذلك، ووفاء لهذه الاستقلالية، فإنه يتعين تطبيقها بشكل صارم و مستقل على الموضوع و المجال على حد سواء. لقد رأينا كيف يتم تطبيق الأخلاقيات في مجال العلوم، و كيف يتم تحديد المسار، و المبادئ التوجيهية و كذلك حدود التطبيق. لقد أصبحت هذه العملية ضرورة حتمية في المجالات ذات الصلة ببقائنا على قيد الحياة، بما في ذلك المناخ، والهندسة الوراثية، و الاكتشافات و أوجه التقدم في الأسلحة و خصوصا الاكتشافات المخادعة التي تتعلق بأنظمة مراقبة الأفراد. إن مجال التطبيق واسع جدا كما أن التحديات كثيرة و المتطلبات في هذا الصدد يجب أن تكون أكثر صرامة.
إن الأخلاقيات يتم تطبيقها رغم ذلك على المجال نفسه و لا حاجة للتذكير بذلك. وبالتالي، ينبغي للعالم المتخصص أن يمارس وظيفته باحترام كامل لقواعد السلوك الصارمة. فالموضوعية، و الشفافية، و النزاهة الفكرية و المهنية، هي الحد الأدنى المطلوب، كما أن المتطلبات تزداد حسب العلوم المعنية و حسب تعقيد مجالات الدراسة. فهي تشمل العلوم الدقيقة و التجريبية أو الإنسانية؛ وبالتالي نتوقع من العالم أو المتخصص أو المفكر أن يحترم مصادر العلوم بالإشارة إليها وأن يترجم بأمانة ملاحظاته و أن يبقى موضوعيا أقصى ما يمكن، وإلا فعليه أن يشير بوضوح إلى ملاحظاته الذاتية النابعة من قناعاته الأيديولوجية أو السياسية تسعى أخلاقيات العالم أو الباحث إلى تحقيق أقصى قدر ممكن من الموضوعية والنزاهة والشفافية أمام موضوع دراسته. لكن ما يثير القلق ، على سبيل المثال، هو الاستنتاجات العلمية -التي عرضها سيغموند فرويد كنتاج للممارسة العلمية- التي عكست عدم صحة التقارير التي تم عرضها فيما بعد. فعلى عكس ما وصلنا عن دراساته في الهستيريا، وفي الدروس الخمسة المتعلقة بالتحليل النفسي، فإن المريضة ،آنا بيرثا بابنهايم التي توسلت العلاج عند الدكتور بروير، لم تتعاف من الخوف المرضي من الماء من خلال جلسات التحليل النفسي، أو ما يسمى بالعلاج النفسي عن طريق المحادثة. بل بقيت تعاني من الأزمات ومن نوبات القلق كما كانت تلجأ إلى الكحول رغم أنها كانت على علم بأصل الداء. هذا المثال- من بين أمثلة كثيرة في مجال العلوم التجريبية و الإنسانية- يلقي بالطبع سمعة سيئة على الخلاصات المقدمة والتي تلقي بظلالها على النزاهة الفكرية والعلمية ومدى قدرتها على البقاء في موقع الحيادية.
إن السلوك الأخلاقي الصارم في العلوم يتيح لنا المضي قدما ومحاولة تحديد الظروف العامة عندما يتم تطبيقها على موضوع معين. السؤال واضح، لكنه صعب في الآن نفسه : ماذا عن الأخلاقيات فيما يتعلق بالموضوع عندما يصبح الموضوع و المجال شيئا واحدا؟ وبعبارة أخرى، ما هو موقع الأخلاقيات بين ضميري وسلوكي ؟ إن هذا التساؤل أمر حاسم لأنه سوف يكون له تأثير على جميع المجالات الأخرى التي تتعلق بسلوك الإنسان. إن تقييما سريعا لجميع التعاليم الأخلاقية لأقدم التقاليد و الأعراف الافريقية، و الآسيوية أو الاسترالية (مع السكان الأصليين) و الطرق الروحية الهندوسية والبوذية ، والأديان السماوية التوحيدية والفلسفات، من سقراط إلى هايدغر مرورا بديكارت أو شوبنهاور، تكشف لنا أمرا ثابتا: هناك نداء واضح وبديهي ينبع من عمق الوعي الفردي والذي يدعو إلى مواءمة المبادئ والقيم -التي نلتزم بها عن طريق الإيمان أو العقل أو الخيال- مع أعمالنا التي ننتجها في الواقع و نتحمل مسؤولياتها. هذا الأمر يبقى صحيحا حتى عندما يتعلق بعمل نعتبره غير أخلاقي، فعلى النحو الذي اقترحه نيتش، ليس هناك ما يدعو لتقديم أي قيمة للحقيقة أو بالأحرى للكذب، فالذي اختار من البداية أن يكذب، فهو يكون على توافق مع الكذب الذي اتخذه كمبدأ منذ البداية، باعتبار الكذب في هذه الحالة قيمة محترمة، حسب نيتش. و هكذا يرى نيتشه، أن السلوك غير الأخلاقي أو الفاقد للحس الأخلاقي يتطلب من الإنسان الخارق للعادة أو المبدع أن يبقى متوافقا مع المبادئ التي يومن بها بغض النظر عن كونها محكومة بمنطق الخير أو الشر. هكذا يتبين جليا أنه لا مفر أبدا من مبدإ الاتساق.
بيني وبين ضميري ينشأ التفكير النقدي. و بالتالي يجب أن نزن أعمالنا بميزان المبادئ التي نتبناها. الشرط الأول أو الفرضية الأولى بتعبير كانط، أن تكون مستقلا عن خياراتك و أعمالك. بعد ذلك، يأتي دور الوعي الذي يجب أن يعمل بشكل جدلي ذهابا وإيابا بين القيم و الممارسة: فعندما أتمثل موضوع الدراسة، تصبح المبادئ الأخلاقية معيارا أحكم من خلاله على نفسي وعلى عملي .لا أستطيع تقييم حالتي والانخراط في الإصلاح ويكون لي مواءمة بين قيمي وأفعالي إلا إذا تمكنت من الاستقلالية عن نفسي .إن نداء الضمير سواء كان أخلاقيا أم لم يكن كذلك والذي يميز كل الأديان و الروحانيات والفلسفات هي دائما دعوة للوعي النقدي و الحرص على إتباع الحياد. فمن الواجب إتباع الحياد ، ومراقبة ذواتنا بشكل مستقل لمراجعة قيمها و سلوكياتها اليومية و جرد آمالنا و التزاماتنا و من الواجب كذلك رسم صورة تجسد كياننا بشكل أكثر موضوعية. مرة أخرى، لسنا بمنأى عن بعض المبادئ الأخلاقية الكونية التي يتقاسمها الجميع والتي لا تنتمي إلى أحد بالذات: فالنزاهة، والشفافية، و العدالة أمور ضرورية -التناقض هو الظاهر فقط – لتقييم درجة الاتساق مع خياراتنا التي يمكن أن تسير في اتجاه الإخفاء أو الظلم. يجب أن نذهب أبعد من ذلك، كما رأينا مع نيتشه : فالذي اختار الفوضى و عدم الاتساق كمبادئ ونمط حياة ينبغي أن يستند إلى مبدأ الاتساق لمعرفة ما إذا كان متسقا مع مثله التي يميزها عدم الاتساق .هذه الاستقلالية، وأخذ المسافة عن الذات هي مفتاح التنمية الشخصية؛ و في الواقع يجب أن تمتد إلى جميع مستويات الولاءات.سواء وسط العائلة، أو في الجماعات ذات طابع ديني أو روحي أو في المدارس الفكرية أو الأحزاب السياسية، فمن المهم للحفاظ على العقل النقدي الذي يمكن قياس الفجوة بين القيم التي نتمسك بها والممارسات الفعلية.
يجب بالتأكيد أن نفرق بين الانتماء المسؤول والمساومات الحزبية. أن تقول لا لأحد والديك عندما يصدر منهم سلوك يخالف المبادئ والحقوق، و أن تعترض على مجتمعك عندما تسود فيه العقلية القومية التي تعمل على تأجيج عواطف الجماهير وإقصاء الآخر، وأن تطالب بالتطبيق العادل لمبادئ الديمقراطية عندما تسود العنصرية والإقصاء، وأن تقف ضد التجاوزات وجميع أشكال الخيانة التي قد يقترفها من يتقاسمون معك نفس الديانة، وأن تعترض على عقلية الإقصاء الذي قد يحكم منطق اشتغال الحزب السياسي التي تنتمي إليه، و الذي يسيء إلى المثل والمبادئ الذي يدعو إليها الحزب، هذه المواقف كلها نتيجة طبيعية وواضحة للعقل الذي يهتم بالأخلاقيات والاتساق المستقل. إن التاريخ البشري يحمل في طياته أمثلة كثيرة من الرجال والنساء الذين رفضوا المساومة، وفاء لمبادئهم، ووفاء لواجب الاتساق والانتماء الديني أو الفلسفي، وتصرفوا ضد ما هو سائد في مجتمعهم أو جماعتهم حتى كادوا ينعتون بالخونة. ندكر على سبيل المثال: يانغ مينغ مع زميله فولتير دفاعا عن كالاس، وزولا في قضية دريفوس، و راسيل التي استقلت طائرة من أجل إنقاذ أينشتاين، و كذلك المثقفون الذين ينتقدون المستوطنات، والمواطنون الألمان والفرنسيون والسويسريون وغيرهم الذين حموا اليهود من الإبادة رغم تحذير حكوماتهم أو رؤسائهم، و الجنود الأمريكيون اليهود منهم، والمسيحيون، والمسلمون، أو الملحدون، الذين رفضوا أمس، الذهاب للقتال في فيتنام، واليوم في العراق. هؤلاء النساء والرجال يمثلون ضمير الشعب، حيث يجسدون بسلوكياتهم أخلاقيات الاستقلالية. إن جميع الديانات والروحانيات، وبدون استثناء، تحمل في جوهرها هذا النداء إلى الفكر النقدي و إلى المبدئ المؤسس للاتساق. فهناك حديث نبوي يلخص سمة مشتركة بين جميع الانتماءات : انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، فقال: رجل يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنصره إذ كان مظلوماً، أفرأيت إذا كان ظالماً كيف أنصره؟! قال: تحجزه أو تمنعه من الظلم، فإن ذلك نصره . هذا هو السبب الذي جعل مثلا غاندي يقوم بإضراب عن الطعام، كأن لسان حاله يقول: ضميري ومبادئي مستقلة عن انتمائي (الديني أو الثقافي أو الفكري) وسأتحمل مسؤولية استقلاليتي من خلال النقد الشجاع لأولئك الذين يشكلون الجماعة التي أنتمي إليها. فينبغي إذن أن أعلن انتمائي بداية لمبادئي، بدل الانتماء الأعمى للجماعة، التي يمكن أن تخون المبادئ ونكون مضطرين آنذاك للقبول بها.
إن الدفاع عن المبادئ و ممارسة واجب الضمير والاتساق وإعلان الاستقلالية عن جميع الولاءات العمياء، سواء كانت أيديولوجية أو دينية أو قومية، يتطلب بالتأكيد أخلاقيات، كما يتطلب شيئا من الإرادة والجرأة. يجب كذلك أن نواجه النقد الذي يأتي من الداخل، وبالضبط من أولئك الذين يرون هذا الموقف كفرار أو كخيانة تقوم بمغازلة الآخر أو العدو. فالعلاقات الجديدة بين الحضارات التي يحكمها الصراع، تكون فيها الانفعالات جياشة و عمياء بشكل كبير، فاليهودي، على سبيل المثال، الذي ينتقد السياسة الإسرائيلية وينتقد صمت إخوانه اليهود ، والمسلم الذي ينتقد موقف المجتمعات ذات الأغلبية المسلمة كما ينتقد سلوك بعض المتطرفين، و الأوروبي أو الأمريكي الذي يكشف أوجه التناقض وأكاذيب السياسات الغربية، هؤلاء ينظر إليهم كأفراد يؤججون كراهية الذات، أو يتصرفون ضد إرادة الأمة، أو يحافظون على شعور الإحساس بالذنب، ممزوج بالعمل على تحقيق المثل العليا اليسارية التي عفا عليها الزمن والتي تدفعهم إلى النضال إلى آخر رمق لمحو خطاياهم. إن النبذ الذي قد نتعرض له من داخل الأمة أو الجماعة التي ننتمي إليها، يكون أكثر قسوة، و يكون قياسا بمدى انعدام الثقة وفقدان الشعور بالأمن، كما ينظر إلى هذا الموقف النقدي كخيانة داخلية، تعكس ظهور ما يسمى بالطابور الخامس، الذي يعمل ويتآمر لصالح العدو. أمام هذه المخاوف والانفعال المفرط، يكون من الصعب الإدراك بشكل عقلاني أن هذه الاستقلالية تتأسس على أخلاقيات معقولة ومسؤولة، وأن الأمر لا يتعلق « بمغازلة الآخر »، بل « بالمصالحة مع الذات » ومع المثل العليا. إنهاء مسألة ضمير وكرامة.
جميل ومنطقي
شكرا