ترجمة صلاح شياظمي
يتسم العصر الذي نعيش فيه بالاضطرابات وانعدام الأمن. وقد قامت عولمة وسائل الاتصال بدورها في عولمة المواقف التي كنا نلاحظها على نطاق أصغر، على المستوى الوطني أو المحلي. فالتمثلات المبسطة والمتجانسة لهذا الاخر، الغريب، الذي يمكن أن يكون جارك، كانت بالأمس يقينية تعبر عن عنصرية تجاه الآخر والآخرين، وكانت هذه المواقف بمثابة عوامل مؤمنة لنا ولأقاربنا و لشكوكنا. لكن الظاهرة تضخمت و تعمقت أكثر. فالعولمة والهجرات زادت من الشعور بانعدام الأمن و زادت من حدة المخاوف بشكل متناسب، كما ساهمت في كثير من الأحيان في تطوير ردود أفعال غير عقلانية وغير منطقية. لقد ضاقت دوائر الانتماء بشكل عكسي ومتناسب، وأصبحت أكثر اقصائية، وبالتالي أصبح لزاما أن نملك هوية نتميز بها، و أمة أو جماعة ننتمي إليها والتي ندين لها بالولاء المطلق.
يبدو أن الهواجس المعاصرة حول مسألة الهوية تساءل بشكل موضوعي كل أشكال انتمائنا وولائنا. فكما يجب أن نملك هوية، يجب كذلك أن نملك ولاء حصريا، وإذا لم نطالب بهذا الولاء كأولوية، أو تم نقده داخل حقل الانتماء، فالشكوك آنذاك تحوم حول مدى صدق النوايا وطبيعة الولاء .إن الدراسات والمقاربات البناءة والإيجابية المتعلقة بقضية التنوع، والتي عرضها بعض الفلاسفة والمفكرين من أمثال الكندي شارل تايلور، واللبناني أمين معلوف، والهندي أمارتيا سين، وعالم الاجتماع البريطاني طريق مودود، تبقى موضع الترحيب وغاية في الأهمية. كما يجب التذكير بتعدد هوياتنا وقابليتها للتطور، فمجتمعاتنا لن تتعايش فيما بينها إلا من خلال إدارة إيجابية واحتفاء ،كما ينبغي، بتعدديتنا الدينية والثقافية الغنية. على الرغم من أن هذه الإسهامات الفلسفية والسوسيولوجية تبقى حاسمة، فمن الضروري إضافة البعد السياسي فيما يتعلق بقضية الولاء. وكما قلت و كررت، فوراء شبح الهوية، يبقى السؤال المهم وهو دوافع الدفاع عن الولاء ولمصلحة من.
هذا لا يعني أن ننكر هوياتنا أو انتماءاتنا، فهذا أمر مستحيل بل يشكل خطورة كبيرة بدون شك، لكن يجب أن نجيد إدارتها كما يجب أن نحسن تموقعنا داخل المجموعات التي تتشكل من خلالها هويتنا. وبالتالي، لا بد أن يتساءل الجميع حول علاقاته وطبيعة ولائه للسلطة والحكم. لقد كشف تصورنا حول استقلالية الأخلاقيات وأخلاقيات الاستقلالية أن النقدي هو الذي يحترم بمبدأ الاتساق الذي لا يمكن لأي فرد أو مجتمع أن يتجاوزه. ببساطة، أن تكون مواليا لذاتك وجماعتك التي تنتمي إليها، يتطلب على المستوى الأخلاقي، أن تقوم بتحكيم نقدي لذاتك وجماعتك على ضوء القيم التي قمنا بصياغتها بشكل فردي أو جماعي. فالمقاربة فلسفية وكذلك سياسية بشكل جلي: فالفرد والمجتمع أو الجماعة يقومون بتحديد مجالات السلطة، والمقاربة الأخلاقية والنقدية تقتضي التحكيم العقلاني لممارسة السلطة والحد من تجاوزاتها المحتملة. فداخل الأسرة مثلا، وأمام سلطة الوالدين أو الأشقاء أو العشيرة، يجب أن نحسن المزج بين احترام الأشخاص ونقد السلوكيات، كما يجب أن يكون الاحترام بروح نقدية، والنقد بشكل محترم. لكن الأمر ليس بهذه البساطة، خاصة في العائلات التقليدية المتشبعة بثقافة الجنوب. وهذا ما يجب أن يسود في الجماعات الدينية و الطرق الروحية، وذلك بالتشبع بالمبادئ العليا والوفاء لها، مع القدرة على نقد بعض السلوكيات الفردية والمساومات الجماعية. وعلى نطاق أوسع، يشكل الولاء النقدي في كل مجتمع إنساني، ضرورة حتمية. فمع الاعتراف بالحاجة إلى الهوية والانتماء، يقوم الولاء النقدي بإخضاع جميع القوى التي تنتج عنها إلى سلاح النقد على حد تعبير ماركس، الذي أراد بحق، ألا ينخدع الإنسان أبدا حول طبيعة موازين القوة والسيطرة سواء كانت اقتصادية كانت أم سياسية. وبالتالي، يجب أن نكون واعين بذلك، سواء داخل العشيرة أو داخل الأسرة. في النظام الدكتاتوري كذلك، يفرض منطق المقاومة نفسه، ويجب أن يشغل هذا المنطق الوعي المدني في النظم الديمقراطية عن طريق التشكيك في اختيار الناخبين، ومساءلة أشكال التعسف المسموح بها، والشعبوية التي يتم توظيفها لأهداف سياسية، و التحالفات الدولية المشبوهة، والدكتاتورية بالخصوص، و عدم احترام حقوق الإنسان، و التمييز والعنصرية الهيكلية، و الشطط في استعمال السلطة من طرف الشرطة بحجة فرض الأمن، و السماح بممارسة التعذيب…إلخ. تبدو القائمة طويلة جدا، فإذا كان الولاء للوطن ولمبادئ الديمقراطية له معنى، فيجب أن يبدأ بممارسة التفكير النقدي و احترام مبدأ الاتساق. فهذا بالضبط هو دور المجتمع المدني بشكل عام، والمثقفين على وجه الخصوص. فإذا كان من الطبيعي أن تكون للشعوب والأمم هوية، فمن الضروري أن تكون واعية تماما. و إذا كانت الدعوة إلى امتلاك هوية والانتماء تعني فقدان الوضوح على مستوى الوعي، فإن الانسان يكون قد فقد الأخلاقيات كما فقد استقلاليته، وبالتالي يفقد جزأ من انسانيته. وهذا ما شكل حدس الفيلسوف بيرجسون، ففي الوقت الذي كان يؤلف كتابه الأخير حول » منبعا الأخلاق والدين » ، كان يقر بالمراحل وكان يرجو أن يكون هناك تطور. ففي المقارنة التي عقدها بين نوعين من الأخلاق والدين، بين أن المهمة الأولى هي السماح بتشكيل الجماعة أو المجمتع و ضمان حمايتها بعد ذلك. لكن « المجتمعات المغلقة » هي التي تحدد الانتماء عبر آليات الحماية والسلامة. يجب حتما أن نتجاوز هذه الأحكام، وأن ننفتح بكل ثقة على القيم الكونية و نجعل من مجتمعنا مجتمعا مفتوحا. إن الوعي بالقيم الكونية التي تمكننا من تجاوز سقف انتماءاتنا، كفيل بخروجنا من قوقعتنا بعقل منفتح وتفكير معقول و نقدي في آن واحد. لقد كان يعتقد بيرجسون أن الرجل الخارق للعادة، على غرار المسيح، هو الذي يمكن أن يعبد الطريق لنتجاوز هذا الانتماء. تبقى الخطوة الأخيرة في هذه الرحلة هي تحقيق المحبة، التي تتجاوز محبة الذات والأقارب، وتجمع بين خيار الثقة في أصولنا، والوعي الأخلاقي والنقدي، و بين الاعتراف بالتشابه مع الآخر، في آخر المطاف، بعيدا عن الخلافات . لقد أكدت الروحانيات والفلسفات والأديان، كما أوضح وانج يانمينغ، وأقر برجسون أن الأخلاقيات هي مسألة وعي وقلب على حد سواء…