إذا كان المسلمون قد نسوا أو بالأحرى تناسوا أهمية القدس بأنها أولى القبلتين و ثالث الحرمين و أن عندها صلى نبينا عليه السلام بالنبـيين، و صحب الروح الأمين، و صعد منها إلى أعلى عليين، فلا بد من التذكير بأنه بالإضافة إلى ما سبق فإن القدس قد شكلت على مدى التاريخ مقياس العدل و وحدة الصف وصدق النية و قوة العزيمة و سمو الاخلاق لدى الأمة الإسلامية. فلطالما أبت زهرة المدائن أن تعود إلى حاضرة الإسلام إلا بعد توحد الأمة و إشاعة العدل، و ما انتصر المسلمون بالسيف حتى صدقوا الله وآثروا أنفسهم من أجل بلوغ الغاية العظيمة، حتى كادت تعدو هذه الظاهرة من السنن و النواميس التي تحك حركة التاريخ.
فلم تفتح أول مرة في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، إلا بعد توحد كل القبائل تحت راية الإسلام. و ها هو ذا الفاروق يمشي مسافة 2400 كلم و هو في أواخر الخمسينات. يسير في هذا الموكب الخالد يتعاقب مع خادمه ركوب الدابة ولكنه يجر خلفه أمجاد النصر على فارس و اليرموك و فتح دمشق و حمص و أنطاكية و اللاذقية و بعلبك و طبرية و بيسان و سيسطنة و نابلس و أجنادين و غزة ورفح.
و هكذا سلمت القدس للأمين سنة 15هـ، بعد أن أقام المعاهدة العمرية التي تضمن جميع حقوق المسيحيين، بل و تحمي كنائسهم و مقدساتهم. حتى أن عمر بن الخطاب أبى أن يصلي في كنيسة القيامة أو حتى قرب مدخلها خشية أن يطمع فيها المسلمون من بعده، ولكن ذهب ليصلي على قبة الصخرة، مسرى الرسول التي هجرها المسلمون بعده. و لقد حق قول عمر: « ما أخشى عليكم الكفر و لكن أخشى عليكم أن تلهوكم الدنيا فتتسابقوا إليها و تقدموها على الآخرة. »
و مع حلول القرن العاشر الميلادي ستعدو مخاوف عمر حقيقة مرة، إذ أصبحت الأمة الإسلامية متفككة بين عدة خلافات ومماليك. فنجد دولة القرامطة في الحجاز، و الدولة الفاطمية في تونس ومصر والضفة الغربية من الشام وصولا إلى دمشق و القدس، و الخلافة العباسية في بغداد و الأموية في الأندلس. كما أن الخلافة العباسية ضعفت و تمزقت و تصارعت مع إمارة البوهيين، و وصل الوباء حتى الأندلس حيث تفرقت دويلات صغيرة و أصبح كل أمير يلقب نفسه أمير المؤمنين. و بسبب هذا التمزق الداخلي طمع النصارى في بلاد المسلمين قبل مجيء الصليبيين ب 140 عاما، فأصبحوا يغيرون على البلدات و المدن فيقتلون و ينهبون و يخربون. و أصبح المسلمون يوالون النصارى و يدفعون لهم الأموال. مثلما يحدث الآن، كتب الحكام لأنفسهم تاريخا مظلما لا يشرفهم و لا يشرف أمة تسكت عنهم و لا تنهاهم عن المنكر. فتم الاحتلال الصليبي للقدس سنة 492هـ ( 1099م)، والذي سيستمر زهاء مائة سنة.
و إذا كان عمر بن الخطاب أعطى الأمان للمسيحيين عند فتح القدس، فإن الفرنجة لم يراعوا فيهم إِلاًّ ولا ذمة، فقتلوا ما يزيد عن سبعين ألف شخص دون تمييز، حتى قيل أن الدماء وصلت الركاب. و شمل القتل المسلمين و اليهود الذين حُرق معبدهم, و كذلك المسيحيين الشرقيين. فعن رواية « وِلْيَم » أسْقُف صور، في كتابه تاريخ الحروب الصليبية: « …و قتلوا جميع من صادفوا من الأعداء بصرف النظر عن العمر أو الحالة ودونما تمييز، فقد انتشرت المذابح المخيفة في كل مكان، و تكدست الرؤوس المقطوعة في كل ناحية بحيث تعذر الإنتقال من مكان لآخر إلا على جثث المقتولين. »
وكما قال ابن خلدون : »الماضي أشبه بالحاضر من الماء بالماء »، فإنه من الواجب استخلاص العبر من الحروب الصليبية و ربطها بالصهيونية، و ليس أدل على ذلك أن الصهاينة يهتمون كثيرا بدراسة التجربة الصليبية حيث يحللون أدق التفاصيل لتفادي الوقوع في نفس الأخطاء في حين أن المسلمين في غفلة عنها. فلقد أشار الدكتور محمد الشنقيطي إلى أن هناك العديد من أوجه التشابه بين كلتا الحقبتين و التي يمكن تلخيصها في النقط التالية:
– استنفار بني على زاد عريض من الخرافات و الأساطير الدينية: و من بين هذه الأكاذيب الصليبية أن المسلمين يضطهدون المسيحيين في القدس و أنهم يدنسون قبر المسيح عليه السلام. أما من الأساطير الصهيونية أن فلسطين هي الأرض التي وعد الله بها اليهود و أن المسجد الأقصى بني على أنقاض الهيكل المزعوم.
– استعمار استيطاني إحلالي في أرض فلسطين: إذ جاء بنية البقاء و قام على اقتلاع الشعب الأصلي أو إبادته ثم احتلال أرضه و استيطانها.
– حركة شعبية قاعدية مدعومة بقيادات سياسة: فالحملة الصليبية الأولى دعا إليها البابا و ليس الملوك، ثم تمت الاستجابة إليه من طرف البارونات و الإقطاعيين. كما هو الشأن بالنسبة للحركة الصهيونية التي دعا إليها مجموعة من المثقفين و رجال الأعمال.
– تجمع من بلدان شتى على أساس الدين الواحد: شاركت شعوب أوربية كثيرة في الحملات الصليبية منهم الفرنسيين الذين كانوا يشكلون الأغلبية و الألمان و الإيطاليون و البريطانيون. و كما هو معلوم فإن الحركة الصهيونية شارك فيها اليهود من كل أنحاء العالم.
– استمداد لأسباب البقاء من الخارج: لم يكن بإمكان الحركة الصليبية أن تستمر زهاء قرنين لولا الإمدادات المتواصلة من الدول الأوربية، و لقد أدى تلاشي هذه الإمدادات إلى ضعف الحركة و انهيارها. و كذلك الحركة الصهيونية، إذا توقف عنها الدعم الخارجي و بالخصوص الأمريكي، فستتهاوى بنفس الشكل. و هذا من أهم أوجه ضعفها.
– استعلاء و عدم اندماج في المنطقة: لما جاء الصليبيون قتلوا جميع أبناء الأديان الأخرى حتى المسيحيين الشرقيين، لأنها كانت حركة كاثوليكية متعصبة تتعامل باستعلاء مع الآخرين، مما جعلها جسما غريبا.و هذا ما يحدث مع الصهاينة الذين يعادون و يستعلون على الجميع.
– عدم القدرة على امتصاص الهزيمة: لما انهزم الصليبيون هزيمة واحدة جدية في معركة « حِــطِّين » انهار المشروع بأكمله. و لو حدث نفس الشيء للكيان الصهيوني لانهار كذلك لأن كليهما مشروع ملفق ليس لديه عمق جغرافي و لا بشري في المنطقة.
و إذا تعددت أوجه التشابه فلا جرم من وجود اختلافات، ولعل أبرزها و أنكاها هو السيطرة الشاملة للغرب في الوقت المعاصر مقابل سيطرته الموضعية في الماضي و التي تستوجب على الشعوب تحررا داخليا وتحريرا خارجيا.
فكيف تم تحرير القدس بعد قرابة 100 سنة من الاحتلال؟
إذا كان تحرير القدس مقرونا بصلاح الدين الأيوبي، فإنه في الواقع نتاج حمل طويل و مخاض مؤلم و جهود موصولة. إذ أن مرحلة الجهاد بدأت مع عماد الدين زنكي، شحنة بغداد العسكرية، ثم ستؤتي أكلها و تثمر نتائجها على يد ابنه نور الدين محمود، ثم مع صلاح الدين الأيوبي. فكانوا من خيرة السلاطين دينا و عدلا و شجاعة.
استطاع عماد الدين زنكي في فترة قصيرة توحيد أكثر أقاليم الجزيرة، ثم اتجه إلى بلاد الشام فانضم إلى جيشه و خدمته آل أيوب و على رأسهم نجم الدين أيوب و أسد الدين شيركو، أب و عم صلاح الدين. فتسلم حلب سنة 522هـ، و استمر في محاولاته توحيد الشام حيث استلم حصن بعرين رغم اجتماع الفرنجة ضده، ثم فتح الرها أحد أهم الإمارات الفرنجية، فكان هذا الفتح سبب الحملة الصليبية الثانية التي عادت خائبة. إلا أنه قتل و هو يحاصر قلعة « جعبر » التي تقع على نهر الفرات. قال عنه ابن كثير: »من خيار الملوك و أحسنهم سيرة، كان شجاعا مقداما حازما. » و إذا كان له السبق بجهاد الصليبيين و إعادة الثقة إلى نفوس المسلمين، فإن التجديد الجهادي سيكون على يد ابنه نور الدين محمود.
ولد نور الدين سنة 511 هـ و نشأ مع والده في العراق ثم الموصل و بلاد الشام. كان يجمع بين الشجاعة و الحكمة و حسن التدبير. كما أنه كان متفقها في الدين ليس عنده تعصب بل الإنصاف و العدل سجيته في كل شيء. أما عدله فلم يترك في بلدة من بلاده ضريبة و لا مكسا و لا عشرا بل أطلقها جميعها. كما أنه بنى دارا للعدل التي يقاد لها حتى أعلى الناس مرتبة من أمراء و قواد الجيوش إذا اشتكى منهم أحد. و أما إصلاحاته في بلاد المسلمين فهي كثيرة حيث بنى المدارس في حلب و حماة و دمشق و كان أهل الدين عنده في أعلى مرتبة حيث أفسح لهم المجال و قدرهم أكبر تقدير و لذلك وفدوا عليه على اختلاف مذاهبهم.
و لم يكن الجهاد عند نور الدين حلا مؤقتا أو مصلحة تقتضيها الظروف بل كان هو الأصل. فتوالت فتوحاته منذ أول وقعة له في حصن العريمة. ثم هزم الفرنجة في بصرى الشام إذ كانوا يريدون التوغل في الجزء الداخلي من البلاد. و بعد ذلك أخذ قلاع تل باشر و عين تاب و عزاز و مرعش و غيرها من أعمال حلب. و في سنة 549هـ دخل دمشق بعد و فاة حاكمها معين الدين أنر، دون قتال أو سفك للدماء بعد أن كاتب أهلها ليسلموها له ففتحوا له الأبواب لما علموا عن جهاده و بذله و حسن سريرته.
و تلك كانت سياسته مع المسلمين، إذ لم يكن يطلب الوحدة بالسيف. و لكن الأمراء الآخرين كانوا مجبرين على الخروج معه للجهاد خشية أن يخرج أهل بلادهم عن طاعتهم. فالعلماء و العامة جميعهم في صفه لما علموا عن بسالته و جهاده في رد العدوان الصليبي.
و في سنة 559 هـ كان فتح حارم من أعظم معارك نور الدين محمود حيث وقع العديد من الملوك و الأمراء الصليبيين أسرى بين يديه.
بعد توحيد الشام صار توحيد مصر و الشام معاً من أقوى الأسباب للوقوف في وجه الصليبيين. لكن هذه المهمة لم تكن بالهينة لأن مصر كانت تابعة للخلافة الفاطمية. و كان الخليفة العاضد بالله شابا معتلا ليس له من الحكم شيء بينما وزراءه يطيح بعضهم ببعض للاستيلاء على السلطة، و لا يتوارون في ذلك بالاستعانة بالفرنجة لقضاء حاجتهم.
و لقد أتيحت الفرصة المناسبة عندما استجار بنور الدين وزير الدولة « شاور » لمساعدته في إرجاع منصبه مقابل ثلث مداخيل مصر. و هذا في حد ذاته يظهر كيف أن أموال العامة كانت مستباحة من أجل الأطماع الشخصية. فأرسل معه نور الدين حملة بقيادة أسد الدين شيركو، عم صلاح الدين الأيوبي. و ما فتئ شاور يستعيد منصبه حتى خان العهد و استنجد بالصليبيين لإجبار أسد الدين على الانسحاب. و في سنة 562 هـ عاد أسد الدين لتأديب شاور على فعلته، و رغم أنه استنجد بالصليبيين مرة ثانية فإن أسد الدين هزمهم أشر هزيمة بألفي رجل فقط. فاضطر شاور إلى مراضاته بالمال لكي يعود أدراجه. و لكن الصليبيين من جهتهم اشترطوا أن يبقوا حمية على أبواب القاهرة لكي يضبطوا مداخلها و مخارجها مما أصبح يهدد بسقوط مصر في يد الفرنجة. فاضطر الخليفة العاضد بالله أن يستنجد بنفسه بنور الدين. فكانت بذلك الحملة الثالثة التي اصطحب فيها أسد الدين ابن أخيه و التي هزموا فيها الفرنجة، ثم قتل شاور ليخلفه في الوزارة أسد الدين. إلا أنه توفي بعد وقت قليل و تولى بعده صلاح الدين الأيوبي الوزارة. فأسقط الدعوة عن الخليفة العاضد فكانت بذلك نهاية الدولة الفاطمية و توحدت مصر و الشام تحت راية نور الدين و الخلافة العباسية.
و في سنة 565هـ أمر نور الدين بصناعة منبر يليق بالمسجد الأقصى لأنه كان متيقنا من عودته في يد المسلمين و قد أحضر لذلك أمهر المهندسين و أثمن الأخشاب فكان تحفة و مفخرة للحرم الأقصى. إلا أن المنية وافته قبل أن يتمكن من وضعه بنفسه في المسجد القدسي.
و ما فتئ نور الدين يواري الثرى حتى بدأت الانقسامات تظهر بين الأمراء الشاميين. إذ لم يترك بعده إلا صبيا يافعا غير قادر على تحمل العبء الجسيم. فغدى الأمراء يفرطون في سنة الجهاد التي أسسها نور الدين و صاروا يوالون النصارى بالأموال لدفعهم عنهم، كما أنهم بدأوا يتقاسمون البلاد بينهم. فخانوا بذلك الإرث و المثال العظيم الذي دأب على صنعه نور الدين طوال تلك السنين.
استلزم اختلالُ الأمور في الشام صلاحَ الدين الأيوبي إلى العودة إليها لجمع شملها من جديد. فشاءت الأقدار أن تكون مصر هي مصدر النجدة هذه المرة. و عند وصول صلاح الدين وجد الأمراء بين موال له لما علموا من قوته و بين مصر على العناد و التفرقة، رغم أنه أعطاهم العهود على أنه لا يود إلا جمع الشمل و الكلمة على جهاد النصارى. فاضطر إلى خوض معارك و حصارات أهدرت فيها أرواح و أموال كان أحرى بها أن توجه للجهاد. فإنها لا تعمى الأبصار و لكن تعمى القلوب التي في الصدور.
و بعد عراك طويل، تمكن صلاح الدين من توحيد مصر و الشام ثانية تحت راية واحدة. و ما تأتى له ذلك حتى أعلن النفير العام، فاجتمعت له الجيوش من جميع أقطار الأمة الإسلامية، ليقضي الله أمرا كان مفعولا.
فكانت معركة « حِــطِّين » الحاسمة و الخالدة التي هزمت فيها جيوش الصليبيين مجتمعة، و اتجه بعد ذلك صلاح الدين إلى فتح القدس التي لم تُسَـلَََّـم إلا بعد قتال شديد مع ساكنتها. و مع ذلك كله، فإن صلاح الدين أعطى الأمان لأهلها و أحسن إليهم إحسانا لا زالت كل الروايات تكتب عنه. ولم يعاملهم بمثل ما صدر عنهم عندما أخذوا المدينة قبل 100 عام. فأبان بذلك عن نبل و سمو أخلاق و قيم الحضارة الإسلامية. و أظهر أن قوة الحضارة لا تعني حضارة القوة.
ثم أمر صلاح الدين بإحضار منبر نور الدين من حلب و نصب بالقدس و كان بين عمل المنبر و نصبه 20 سنة. وكان هذا من كرامات نور الدين و حسن مقاصده. و لقد ظل هذا المنبر الرائع بالمسجد حتى التهمه حريق بتدبير الصهاينة سنة 1969م.
مائة عام لم تنسى فيها الأمة و لم تفرغ الذاكرة من خبر الماضي و اليقين بوعد المستقبل. الناس الذين عاشوا و ماتوا على حلم النصر و تخليص العباد و البلاد. الأمة التي ثارت على فساد سلاطينها و طلبت وحدة مصر و الشام و عينها على القدس. ألوف الشهداء الذين نجهل أسماءهم. و قد بعث الله تعالى للأمة من يجدد دينها و عزيمتها، عماد الدين و نور الدين و صلاح الدين و ما كان لهؤلاء أن يبرزوا لولا الأمة التي أنجبتهم.
فمتى ستُحرِّرنا القدس؟
زينب رتاب