سننتهي في يوم من الأيام بالرجوع إلى الأصل. إن المسارات الأكثر بعدا توصلنا إلى دواخلنا، وحميميتنا وعزلتنا…حيث نكون وجها وجها لوجه مع ذواتنا، حيث ليس هناك إلا النفس والله تعالى. لقد قام باولو كويلو في رواية الخيميائي بنقل أدق وأعمق التعاليم التي نجدها في التصوف الإسلامي. هذه التعاليم تدعونا إلى الانطلاق لاكتشاف العالم، والتأمل في المخلوقات، والبحث عن الحقيقة وعن لغز الوجود…إذا سلكنا هذه السبل، فإنها ستؤدي بنا إلى المقصود؛ فالنور والسر يختبئان في المكان الذي انطلقنا منه. أنت في الطريق ليس للوصول إلى نهايته، بل للرجوع إلى الأصل، يعني تذهب إلى اكتشاف ذاتك، فترجع إلى نقطة الانطلاق، التي تجد فيها مقصودك. نستنتج من هذه المفارقة الواضحة التي نجدها في هذه التجارب الروحية الاستكشافية أن مجاهدة النفس باستمرار، من أجل تطهير النفس وضبط سلوكياتها وتحرير أرواحنا من الأغلال والقيود، تعتبر مصالحة مع الذات، أي مع فطرتنا.حيث هناك الشرارة التي أودعها الله تعالى في قلوبنا منذ أن خلقنا، والتي تجعلنا نعيش في حالة سلام داخلي. هذا السلام هو في الحقيقة مصدر تحررنا من كل الأغلال.
قال تعالى : »هو الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا ». الموت والحياة والتجارب والمحن والألم والشعور بالوحدة والفرح والسعادة هي جملة من الدروس على طريق المصالحة. كما أن الجروح والفراق والدموع والابتسامات كذلك كلها أمور توحي بشيء ما: إذا كنت تعيش فاقد الوعي، فإنها ستصل إليك؛ وإذا كنت مع الله، فإنها سترشدك وتأخذ بيدك. إلى أين؟ إنها ستأخذ بيدك إليه، حيث تكون في مصالحة مع ذاتك. إنها من أجمل التعاليم التي نجدها في الإسلام ومن أعقدها كذلك، حيث لا يمكن أن تصل إلى الله إلا بالمصالحة مع الذات. إذن يجب أن تكون الذات في طريقها إلى البحث عن هذه الذات بنفسها؛ هذا هو معنى الحياة. إن المحن لا تردك في البداية إلى حدودك، بل تردك إلى أصلك، وهنا تأتي الحاجة إليه. إنها تردك طوعا أو كرها إلى جوهرك الذي خلقك عليه الله تعالى. إذن هذه الهجرة تردك إلى ذاتك.
التقى أحد الناس برابعة العدوية المتصوفة ووبخها قائلا : » لقد اكتشفت آلاف البراهين على وجود الله »، لم تعره اهتماما وأجابته أنها تعرف حجة واحدة تكفيها. فسألها: » ما هي؟ ». فأجابته : » إذا كنت وحيدا في الصحراء، وسقطت في بئر، إلى من ستتوجه؟ » فقال : « سأتوجه إليه! وهذه الحجة تكفيني! ». إنه جواب غريب، وبسيط كما يبدو، بل مبسط، سيستوعبه كل عقلاني أو ملحد دون تردد، كما لو كان هذا الجواب تأكيدا لكل معتقدات هؤلاء التي تأكد : » أن الله هو ملجأ الضعفاء، و أمل من لا أمل له، وعزاء، واكتشاف يبعث على الطمأنينة! »
يبدو أن المعاناة وكل ما هو مجهول يدفعان العقل إلى البحث عن ملجأ وعن عزاء. هذا هو المنطق السطحي للعقل الذي يدرك فقط ما يحيط جزئيا بطبيعة الإنسان. في حين أن الإسلام يقول عكس ذلك، فمحن الحياة والحزن على فراق الأحباب مثلا ترد الإنسان إلى تطلعاته الجوهرية، فالوعي بحدوده وبشريته يرده إلى التطلع إلى السمو وإلى البحث عن الجوهر. فأن تتوجه بالدعاء إلى الله ليس عزاءا، بل عثورا على أصلنا الذي خلقنا الله تعالى عليه؛ والذي يتجلى في نور الانكسار إلى الله والتذلل إليه، وفي الوعي ببشريتنا وضعفنا.
تصور أمام عينيك طفلا يعيش حياته، معتمدا على الآخرين، في براءة وضعف. عندما نكون مع الله تعالى، يجب أن نحسن الحفاظ على هذه الحالة، يعني أن نقبل بكل تواضع بضعفنا، وأن نحسن صلتنا بالله، وأن نرجع دائما إلى أصلنا وفطرتنا. في المقابل، غواية الاستعلاء تقتضي أن يعتقد الإنسان أن بإمكانه أن يحدث القطيعة مع طبيعته، ويصل إلى استقلالية فكرية كاملة، حيث يمكنه أن يتحمل لوحده معاناته بشكل عقلاني…إن الاستعلاء يعني تأكيد الاستقلالية المزيفة مع الإبقاء على وهم العيش بكل حرية. في حين أن التواضع هو البحث عن تلك الشرارة التي تجعلنا في حاجة إليه في حياتنا، حتى نعيش في كامل الاستقلالية الحقيقية.