قدّر المولى عزّ وجل أن تكون لنا هِجرة إلى براري أفريقيا السّمراء، إلى ضفاف نهر النيجر، لنلتقي هنالِك مع أحد معالِم الفكر الإسلامي في وقتنا الراهن « البروفيسور طارق رمضان » للجلوس بين يديه متتلمذين، طالبين علمه وحلمه، آملين النّهل والاستلهام من معين شخصيّته وتواضعه، فكان ذلك ضمن برنامج « الملتقى العالمي للمسلمين الناطقين باللغة الفرنسية CIMEF » والذي نُظّم بالتعاون مع مركز الأخلاق والتشريع الإسلامي الذي يديره البروفيسور في قطر بالدوحة « CILE ». وقد دارت دواليب البرنامج تحت شعار « واقع المسلمين اليوم: بحثا عن حلول » لمدة ثمان أيام، عُني كل يوم بمجال من مجلات الحياة والانشغالات اليوميّة في العالم اليوم.
كان التفرغ وفحوى البرنامج في اليومين الأولين حول الرّؤية الكونية، النّظرة الإسلامية للعالم، حركية الفكر والفعل، موقع العقل والسّياق في فهم وقراءة النّصوص التشريعية، عالمية الإنسان المسلم.. نظرا لأهمية هذه المفاهيم، ولكون الإنسان المسلم يملك حلولا عدة أمام عالَمٍ تائهٍ حائر في شتى المجالات… كيف ينطلق فيه، منه، ضمنه، معه… بفعالية. ثم توالت المحطات الموالية تترى، مُحاولة دراسة أهم المجالات التي يتمركز عليها عالَم اليوم، عرضا للواقع وتشخيصا للحالة، ثم بحثا أو اقتراحا لحلول، من بينها: الإسلام والأخلاق، الإسلام والتربية والعلوم والمعرفة، الإسلام والمرأة، الإسلام والسياسة، الإسلام والاقتصاد، أين كان البروفيسور طارق رمضان المسيّر والمنشط الرئيسي للبرنامج إضافة إلى بعض الدكاترة والأساتذة الذين اتحفوا البرنامج بمداخلاتهم وإسهاماتهم.
أفريقيا والصور الإدراكية…
ما شدّ انتباهنا واندهاشنا حينما حطّت بنا الرّحلة بأراضي بلد النيجر الشقيق، الفرق الواضح بينما ما صُوِّر لنا من نظرة مُسبقة وما وجدنا عليه الواقع، فكل من يتبادر إلى سمعه عن سفرنا، لا يتوانى مباشرة عن الاتصال والحرص والتحذير الشديد من أمرين، من مرض « الملاريا » وما يعرف « ببوكو حرام »، مما يجعل المرء يقف حائرًا متسائلاً: هل يجوز اختزال بلد بكل ما فيه من خلفيات ثقافية ولغات وتقاليد وعقائد وقِيم وحضارة في مفهومين، نسجهما الإعلام وخلطهما بشكل مستساغ قابل للاستهلاك!! والغريب أنه وفور وصولنا هنالك بعد منتصف الليل، قدمت لنا شرائح هاتفية، وقائمة اتصالات خاصة بالمسؤولين عند الحاجة، ووضعت تحت تصرفنا سيارة اصطحبتنا إلى مكان الإقامة. اندهشنا بطيبة القلب، ورحابة الصدر والإحسان والذي عوملنا به، والعجيب أنهم لم يقبلوا في النهاية استلام أي مقابل لمختلف الخدمات التي قدمت من نقل وإيواء وإطعام خلال فترة الإقامة هنالك، هنا يتفكر المرء ويقف مستفسرا عن الصياغة التي صورت له سلفًا، أفي ذلك قبيل من الإنصاف..؟؟
حياة البساطة ولقاء مع إنسان الفطرة…
قد يبدو ظاهرًا للعيان لكلّ من زار بلد النيجر، تلك البساطة التي يعيش فيها أهاليه رغم الخيرات التي تبطن أراضيهم من موارد ومناجم. إلتقيانا هنالك بإنسان « الفِطرَة » إنسان صفاء قلبه، ورحابة صدره وإخلاص حبه.. أهم ميزاته، ذلك الذي لم تتغير فطرته ولم تتشوه سليقته بأعباء الحضارة وتبعات العولمة، إلتزامه بدينه وتقاليده وحبه للعمل أهم خصاله… إلتقينا به خاصة في البراري الريفية، أين استعصى علينا الفهم واستساغة الواقع مقارنة بما نعيشه، حينما وجدنا دواليب حياته وفحوى أيامه تدور في حيّز مقتصر على بيته المتواضع أو « كوخه » في بعض الأحيان، وعائلته وحقله وقطيعه.
خطوة للتأمّل وخطوة أخرى تحميل للمسؤولية…
سفر المرء وسيره في الأرض يعلمه الكثير، وينمي بشكل جذري جغرافية الإدراك عنده، ويزيده مسؤولية إلى مسؤوليته، فالكثير من المحادثات والنقاشات مع الإخوة هنالك، من أفريقيا الوسطى، من بوركينا فاسو، من فرنسا وبلجيكا، والنيجر والبنين ومالي وساحل العاج، في سائر الأيام أو في سهرات السمر الليلية التعارفية والتبادلية التحاورية، علمتنا الكثير عن الإنسان الأسمر، عن تنوع لغاته وتقاليده وحضاراته… ذلك الإنسان الذي تقتصر معرفتنا به خلال بعض فرص العمل، أو من خلال الإعلام أو كرة القدم … لكن في الحقيقة، أن وراء ذلك الإنسان ذاكرة تاريخية يجب أن تحترم، وعدة لغات مهم أن تُدرس، وثقافات جميل أن يستلهم ويستفاد منها، مما يجعل المسؤولية مضاعفة للتبادل، للإفادة والاستفادة، فقد يقدّم الإنسان المنطلق من أي وعاء حضاري أو نسيج اجتماعي معلومة قد تبدو عادية مألوفة بالنسبة له، تكون بمثابة فتح عظيم ونصر مبين لشأن يعتبر من أهم الانشغالات لدى إنسان آخر من وعاء مختلف. حينما يضجر الإنسان من نوعية الطعام المقدم له في المدرسة أو الجامعة، ثم يلتقى طفلا هنالك لا يجيد الكلام باللغة الفرنسية والتي تعتبر لغة منتشرة، ثم يسأل عن السبب فيجد أنه لم تتسن له الفرصة ليدخل يوما إلى قسم للدراسة، وآخر مبتغى آماله أن يجد أستاذا وقسما جد متواضع، ليتمكن من طلب العلم والاستزادة منه، وقد زرنا البعض منها، في كل هذا تحميل ثقيل للمسؤولية أيضا.
الإنسان الأبيض والإنسان الأسود… نظرة عقيمة و »حقل جهاد »
ما يلحظ الإنسان بشكل مدمٍ للقلب، ومؤنّب للضمير، تلك العقدة الذهنية التي يحملها الإنسان هنالك من فرق بين الإنسان الأبيض والإنسان الأسود، والتي قد تكون من افرازات ومخلفات الاستعمار، ذهنيات الاستعباد التي زرعها واستثمر فيها، كي يتسنى له استغلال ثروات هذا الأخير وما تبطنه أرضه من خيرات وموارد، لذا قد يبدو أن أعظم جهاد ينتظرنا جميعا في هذا السياق، إعادة صياغة تلك النظرة وفلسفة المساواة بين البشر جميعا أمام الله وأمام الإنسانية جمعاء، وأن الإنسان الأفريقي بكل موروثه الحضاري يمكن له أن ينطلق في الكون بفعالية، ليحقق الشهود الحضاري، دون انتظار خدمة من أي إنسان كان أبيض أو أصفر أو غيره…
هي مجموع بعض خواطر وتأملات من خلاصة تلك الهجرة إلى أرض النيجر، مع إخوة وصحبة في الله، لبسط نظرة عن البرنامج العلمي، وبعض مما تسنى لنا مشاهدته واكتشافه هنالك، نرجو من الله حسن القبول والتوفيق للنزوع للعمل بعد التفكر والتأمل والأمل.
عبدالهادي الشيخ صالح