لقد سمعت عن القضية الفلسطينية في وقت مبكر جدا عندما كنت شابا. لقد كان أبي أو بالأحرى كانت أسرتي ملتزمة بهذه القضية قبل تأسيس دولة إسرائيل، التي كان ينظر إليها كمقاولة استعمارية تم تسييرها بمساعدة الإنجليز قبل كل شيء، ومساعدة الدول الأوروبية الأخرى كذلك، دون أن ننسى الدعم الأمريكي. على المستوى الديني، كنت أسمع خصوصا أصوات المطالبة باسترجاع الأماكن المقدسة، وبمقام القدس بطبيعة الحال. الكلام الذي كنت أسمعه في المنزل كان بعيدا عن التأويلات التي كنت أسمعها في الخارج. فلا يمكن استيعاب الدعم اللامشروط الذي تقدمه النخبة السياسية لإسرائيل، دون الأخذ بعين الاعتبار بعض العوامل التاريخية. إن الإحساس بالذنب الذي تشعر به أوروبا على إثر إبادة اليهود، والحكم النازي، بالإضافة إلى الصمت بل التورط هي بعض العوامل التي تفسر بالتأكيد هذا الدعم. لقد كان بالنسبة لي مساندة الفلسطينيين جزءا لا يتجزأ من مساندتي للشعوب المقهورة في العالم. وهكذا كنت أساند القضايا العادلة المتعلقة بمقاومة الاستعمار، سواء في إفريقيا الجنوبية، أو في إفريقيا، أوفي آسيا، كما كنت أدعم مقاومة الاحتلال، وأدافع عن المحرومين من حقوقهم، كما هو الحال في التيبيت وإفريقيا الجنوبية، وكما هو الحال بالنسبة للأرمينيين والسكان الأصليين والفلسطينيين كذلك. لقد اندرج سلوكي في هذا الإطار في وقت مبكر جدا، وكان خطابي في هذا الصدد يدور دائما حول تحقيق العدالة، والالتزام بهذه القضايا دون انتقائية.
والأمر نفسه بالنسبة لمسألة الضواحي الفرنسية، فلم يسبق لي أبدا محاولة المقارنة بين شباب الضواحي وبين الفلسطينيين كما قام البعض بذلك، ولم يسبق لي أن غذيت هذا التمثل، أو هذا الإسقاط على المرآة العاكسة لقدر الفلسطينيين. إن شباب الضواحي يعيشون واقعا آخرا، ولا يمكن مقارنته بواقع الفلسطينيين. هذا لا يمنع من القول أن شباب الضواحي يواجهون التمييز والعنصرية المهيكلة والإساموفوبيا التي بدأت تترسخ وتتمأسس. إنهم ضحايا التمييز والقهر، وبالتالي يجب أن ندافع على الاعتراف بحقوقهم المشروعة، كما يجب أن نقدم لهم الدعم اللازم. لكنني أعارض في نفس الوقت عقلية الضحية، ويجب عليهم أن ينهضوا ويتصرفوا كمواطنين للمطالبة بحقوقهم، وهو ما شرعوا في القيام به الآن.
و إذا كان هؤلاء الشباب يساندون الفلسطينيين فهذا أمر طبيعي، ولا أرى فيه شيئا معيبا. فالأمر مرتبط بالطريقة التي يتم من خلالها صياغة خطاب الدعم والمساندة. فإنكار معاناة اليهود خلال القرن العشرين، والتلفظ بكلام معاد للسامية، وإنكار الأحداث التاريخية المتعلقة بالحرب العالمية الثانية، أمور لا يمكن القبول بها بأي حال من الأحوال. وفي المقابل، القول أن السياسة الإسرائيلية قائمة على التمييز، والقمع، ولا يمكن إنسانيا الدفاع عنها، فهذا أمر مشروع، وصحيح فكريا، كما يلزم قوله. بالإضافة إلى أن نضال الشعب الفلسطيني مشروع ومقاومته كذلك، كما هو الحال بالنسبة لجميع الشعوب المضطهدة. الفرق يكمن فقط في البعد المركزي والشمولي لهذا الصراع الذي يحمل أبعادا إقليمية. هناك عدة عوامل على المحك: فإسرائيل ينظر إليها كمرآة عاكسة للغرب ولقيمه، وفلسطين مرآة للعرب والشرق والإسلام كحضارة. كما تعتبر تجسيدا للعلاقة بين الشمال والجنوب، لأن الجنوب بأكمله يساند الفلسطينيين، عكس الشمال. يجب إذن النضال من أجل هذه القضية، مع الأخذ بعين الاعتبار العديد من المتغيرات، لأن هذا الصراع له تداعيات عديدة وحاسمة، وبالتالي يجب أن ننصت إلى جميع وجهات النظر، وأن نكون قادرين على الرجوع إلى الوراء، والتمييز بين الجوانب المطروحة، فهناك الجانب الديني، والجانب السياسي، وهناك كذلك الاعتبارات الجيوسياسية، والعلاقة بين الحضارات. لقد علمتنا خطط » تسوية الصراع » ضرورة وضع كل اعتبار في مكانه المناسب دون التنازل بطبيعة الحال عن الحقوق الأساسية.
لقد كانت تجربة حياتي وجذوري عوامل أثارت في نفسي الرغبة في الالتزام بهذه القضية، جنبا إلى جنب مع الفلسطينيين. كما أن تحيز السياسيين ووسائل الإعلام الغربية، التي كانت طرفا معنيا، زادت في رغبتي في الالتزام بها، خصوصا أن الفلسطينيين ضحايا اضطهاد مزدوج. فهم، أولا، يعيشون مُستَعمَرين تحت سلطة الاحتلال. وثانيا، ليس لهم نفس الحقوق على مستوى تعامل الإعلام مع قضيتهم، لأن المعتدين هم الإسرائيليون. وهناك صمت رهيب حول هذه القضية، والعالم بأسره يأسره الخوف من هذه القضية. فهل وضعية الفلسطينيين أقل منزلة من وضعية باقي الشعوب المضطهدة في العالم، لأن إسرائيل توجد في الواجهة؟ لقد قررت عدم السكوت حيال هذه القضية، ولن أقبل بهذا النوع من الدفاع عن المضطهدين وفق أبعاد متقلبة.