طارق رمضان : إن مسؤوليتي تمكن في انفتاحي على الجميع واكتشاف مسارات جديدة وخلق روابط وعلاقات جديدة، باسم القيم والمبادئ المشتركة. يجب أن أكون حاملا للمعنى ومبلغا به أينما كنت، وحاملا لقيمة مضافة إنسانية وأخلاقية وروحية. جميل أن تشاركون في الحلق الفكرية. لكن يجب كذلك أن نعطي معنى لالتزامنا، عن طريق تحديد الأولويات والإجراءات. وهذا ما أدعوه ب »دينامية السلطة المضادة »، وهي قوة اقتراحية ومكملة للوعي . إن التظاهر والنزول إلى الشارع شيء جميل وضروري، وقول « لا » للطغاة أمر مشروع، لكنه غير كاف. فالنقد من أجل الهدم أمر سهل، لكن التفكير من أجل البناء هو الأكثر صعوبة. فهل هناك وسيلة للمصالحة مع المبادئ والذاكرة وعبقرية الشعوب، واقتراح طرق معينة للتحرر على المستوى الفكري والثقافي والجمالي، دون أن نكون طوباويين أو سابحين في الخيال أو صوفيين منعزلين؟ ألا يمكن أن نتجاوز خطابكم الذي يقول : » أنا شجرة لا أعلم من أين يأتي الريح، ولا أعلم أين تسقط الثمرة، لكنني كنت هنا ».
إدغار موران : أنا أحتفظ بهذا التشبيه، وأحاول صياغة مشاركتي على المستوى الفكري، حتى تكون لكل هذه الأشكال الثورية التي قد تبدو بدون جدوى آفاقا في المستقبل. فأنا أحمل رسالتي مثل بول تارس، وأقوم بمحاضرات في الميدان، وأشارك في عدة لجان ومنتديات، لكن بعيدا عن الفكرة التي تكتفي بالقول أن ليس أمامنا إلا التفكير في إطار تنظيمي. فنحن مطالبون بالبحث عن الصيغة المناسبة. لقد اقتنعت أن الواجب ليس هو تأسيس حزب، بل الواجب هو تشكيل عصبة. لكن ما هي هذه العصبة التي تحترم التنوع وتنمي في نفس الوقت روح التآزر بين الأعضاء؟ أنا أقول مع نفسي إذا تمكنت العناصر المتفرقة من التواصل، فهذا هو مصدر تشكيل هذه القوة. لقد كنت أفكر في تأليف الجزء الثاني من كتاب « المنهج ». وكنت سأجمع فيه بعض الأمثلة المتعلقة بالمبادرات المحلية المثمرة بجميع أشكالها، لكنني غيرت رأيي، وقلت أن من الأفضل استعمال الأنترنيت، وتأسيس موقع يتمكن فيه الناس من حكاية تجاربهم. لقد حاولت القيام بذلك، لكني لم أجد الوسائل لتحقيق ذلك. لقد واجهت عدة صعوبات في هذا الصدد، ولم أكن أملك القوة لإدارة الموقع، ففشلت باختصار بعد سنتين من المحاولات.
لقد أدركت أنه كان علينا أن نعمل من أجل الاتحاد قبل الشروع في أي عمل. فأنا مستعد الآن للعمل من أجل تيسير سبل تحقيق هذا الاتحاد. لقد أنتجت الشجرة ثمارها، وقلت الجزء الأكبر من فكري في « المنهج »، كما جاء في « طريق الأمل » الذي ألفه ستيفان هيسيل، وهو ملخص لكتابي. ربما قد تأتيني أفكار أخرى في وقت لاحق، لكنني أعتقد أني قمت بصياغة رسالتي. لا تروقني كلمة « التزام »، لكني أحاول جاهدا أن أسير بالحركة إلى الأمام. لقد اجتمع العديد من الناس من أجل الاتفاق الودي (le manifeste convivialiste).
رغم ذلك، فبقدر ما يبدو لي أن فكرة « الودية » رئيسية، والتي قام بإطلاقها النابغة إيفان إيليش الذي قام بصياغة نقد رائع للحضارة الحديثة، بقدر ما يبدو لي أن كلمة « الودي » لا تقول الكثير. تبدو لي صيغة الرئيس البوليفي إيفو موراليس مقنعة أكثر، والتي رددها رافاييل كوريا « : العيش الكريم ». لماذا؟ لأن حسن العيش الجميل تردى وانحرف في اتجاه النعيم المادي، فالرفاهية هي أن تملك ثلاجة! إن الحياة الكريمة في المقابل تفترض عملا من أجل العيش. فماذا تعني الحياة؟ إن الحياة هي تجديد مستمر في الزمان. وماذا يعني العيش؟ يعني أن تنفق طاقتك في كل لحظة، بالكلام أو حتى النوم، لأن القلب والرئتين في حالة اشتغال دائم، ونحن في حاجة إلى تجديد طاقتنا، وتجديد جهازنا، وفي حاجة إذن إلى الطعام. ففي كل ثانية، تتفكك ثلاثمائة ألف خلية صغيرة وتموت، ويحل محلها ثلاثمائة ألف خلية صغيرة. فجسمنا يستعيد شبابه بالتقدم في السن، والحياة توظف موت بعض الخلايا لخلق خلايا جديدة. يمكن أن نقول من جهة أن هناك صراعا أبديا من أجل البقاء، فحسب مبدأ الديناميكا الحرارية لكارنوت كلوسيوس، يعتبر التكفك أمر نهائي ولا رجعة فيه، وبالتالي يجب أن نأكل الطعام ونستهلك الطاقة، ومن جهة أخرى، هناك مبدأ التجديد، الذي يتجلى في إعادة الخلق من جديد. ففي مجتمعاتنا، هناك العديد من الأمور تنقصها الحياة. فلا يكفي أن تكون لك أفكارا جديدة، بل يجب أن يكون هناك حد أدنى من الانسجام بين ذاتك وبين أفكارك، لقد قلت « حد أدنى » حتى لا تكون هناك مبالغة. أنا لست جميلا حقا كأفكاري، لكني لست سيئا على أي حال!
طارق رمضان : » لست جميلا حقا كأفكاري » : سأردد هذه الصيغة.
إدغار موران : إن التجارب التي عشتها طورت أفكاري، وساعدتني على الحياة. فأنا لم أفصل حياتي عن قناعتي، و عن فكري، أو عن نشاطي الدماغي. لقد قال نيتش : » لم أفصل أفكاري عن حياتي ». أكرر : لو كنت جميلا فأفكاري، لكنت رائعا! رغم ذلك، أعتقد أن الأمر يتعلق بإسهام قد يكون مفيدا. إن زوجتي تنتقدني لكوني لا أناضل، لكن النضال بمعنى أن تكون من أنصار ومؤيدي قضية ما أمر صعب. وهكذا، عندما توقفت منذ مدة كبيرة عن التظاهر في الشارع، قررت الرجوع إلى ذلك عندما أشار نيكولا ساركوزي إلى الغجر. لم أتمكن من منع نفسي من الذهاب إلى المظاهرة! أريد أن أبقى حاضرا في العالم، لكن لا يمكن أن أنسى أن دوري الرئيسي هو القيام ب »مهمتي »، وأضعها بين مزدوجتين، لأنني أشعر بالغرابة عندما أقولها للآخرين، والتي تتجلى في تأليف « المنهج ». لقد أخذ هذا المشروع ثلاثين سنة متقطعة، لكن هذا الإصلاح الذي يهم المعرفة هو إصلاح الفكر، الذي يجب أن يؤدي بدوره إلى إصلاح الإجراءات، وإصلاح الشأن التربوي والشأن السياسي. الكل مرتبط. فهذا ما أحاول أن أقدمه…لكن ليس بإمكاني أن أوزع كتبي في الشوارع.
طارق رمضان : أنا متفق معكم. فمن اللازم معرفة ما يمكننا أن نقدمه، وما هو القدر الذي يمثله إسهامنا. إن تغيير أنماط الفكر من الداخل، والعمل على طرح الأسئلة الحقيقية وتحديد عناصر « المنهج »، يعتبر عملا حاسما . لقد ألفت في ثلاثة مجلات أساسية في العلوم الإسلامية، والشريعة و الغرب وتحديات المجتمعات ذات الأغلبية المسلمة، وكذلك في الفلسفة وحوار الحضارات والثقافات والأديان. لقد كنت أرغب من داخل مراجعي الفكرية أن أتجاوز الهاجس الشرعي-الفقهي، وأن أصالح فكرنا مع الأخلاق والمقاصد الكبرى. إن تأملكم حول « الرفاهية » وحول « الحياة الكريمة » مهم جدا، فنادرا ما تجد الاهتمام بهذا الأمر في الدوائر الدينية، التي تتطرق إلى الأخلاق والمحظورات أكثر من تطرقها إلى الرفاهية والعيش الكريم. إن الروحانية مرتبطة في نظري بالانسجام مع الذات، وهو تعبير آخر عن الرفاهية، التي ترتبط بدورها مباشرة بالحياة الكريمة التي ليست مقتصرة بالضرورة على الجانب المادي. يتعلق الأمر بحسن الحال مع الذات، ومع الآخر ومع الطبيعة، وبالطبع مع الواحد الأحد في الأديان التوحيدية. هذا ما نجده في التراث الإسلامي من خلال مؤلفات الفقهاء والصوفية والفلاسفة من أمثال الكندي، والفارابي، ومسكويه، والجيلاني، والغزالي، وحتى ابن تيمية الذي لا يقدرونه حق قدره، تطرق إلى هذه المسألة بشكل عميق وجذري.
فمنذ سنوات وأنا أدعو ذوي الضمائر إلى التطرق إلى هذه المسألة. الكثير منهم يقولون أن هذا الأمر جميل وأنهم ينخرطون فيه، لكن ماذا بعد؟ بقراءتي لمؤلفاتكم، اقتنعت أننني أمام فكر قوي، ونبيل، وجدير بفكر تنظيري، بمعنى أنه يملك رؤية محددة وغايات معينة. لكن كيف يمكن انطلاقا من إطارات مرجعيات أخرى، ومصادر أخرى، وتطلعات أخرى أن نؤسس جسورا وأن نلهم الحركات وأن نعمل على حشد الناس، كما ذكرتم؟ أنا بصدد طرح مسؤولية المفكر والمنظر أو المثقف الذي ينتج أفكارا في عالم ينتج الضحايا أكثر فأكثر وأفكارا أقل.
الأسوأ هو أن تقضي سنوات في تأسيس فكر مقاوم ومركب وبالغ الدقة ومتعدد الأبعاد ودائم الانفتاح، وترى بعض الأشخاص الذين قليلا ما يقرؤون يتلقفونه، وينخرطون فيه قبل كل شيء بطريقة انفعالية وعاطفية، وأحيانا خالية من الحس النقدي تماما. إن المفارقة المربكة هي أن تنتقد الشعبوية، وتلاحظ بعد ذلك أن الانخراط في هذا الاتجاه النقدي يكون بدوره قائما على أمور غير صحية ومستنكرة من قبيل الانخراط الانفعالي والعاطفي. إن تطوير الفكر النقدي الذي يتطلب وعيا وتأملا عميقين، لا يمكن أن يكتفي بالغضب وردود الأفعال الغريزية، فالاكتفاء بهذه الأمور يضاعف من عجزنا، لأن الفكر يفقد بهذا الشكل وسائل تحقيقه. إنها حلقة مفرغة جدا ومفرغة بشكل خطير. العديد من الناس يربتون على كتفي قائلين : » هذا جيد، واصلوا عملكم! ينخرطون في الفكر لكنهم لم يستوعبوا الجوهر ».
ولأعيد التشبيه الذي ذكرتموه، أقول : يمكن أن أكون شجرة، لكن يجب أن يكون لي كذلك حظ من الريح التي تفرق البذور وتحملها إلى مكان بعيد…يجب إذن التفكير في الشجرة والريح والتربة. بعد ذلك، يجب أن ننتبه إلى الاسترجاع؛ فنحن ننتج عناصر لمقاومة العولمة الشاملة، وندرك أن أجمل القطع الموسيقية تكون أحيانا مدمجة في النظام الذي يجعلها مرهونة له.
من كتاب خطورة الأفكار.