قبل مفهوم المعرفة، هناك مفهوم الإقرار والاعتراف، يعني الوعي أننا مملوكون لله تعالى قبل إدراك هذا الأمر بالمعرفة العقلية. ندرك إذن من خلال هذه الرؤية أن هناك تصورا بالغ الدقة للعالم والنظام الذي تمت بلورته في التوجه الصوفي. لكن نرى مع الأسف أن النقاشات التي تتناسل حول قضية الإسلام تبقى سطحية وتتجاهل هذه التصورات. يسلط هذا الأمر الضوء على كون النظرة إلى الإنسان في أصله هي نظرة إيجابية ومتفائلة للغاية، كما أن مفهوم الخطيئة الأصلية لا وجود له في الإسلام. فالطفل يعتبر مسلما من وجهة نظر الإسلام ، لأنه يحمل في كينونته الإقرار بوجود الله تعالى، مثله مثل باقي المخلوقات. وحتى الطير الذي يطير ويخفق بجناحيه يعتبر مسلما، من وجهة نظر الإسلام كذلك، بحكم خضوعه للسنن الكونية ومشاركته فيها. وهكذا فالشجرة والنواة، التي تقسم لتنفتح وتعطي بذورا، تعتبران من المخلوقات المسلمة، بمعنى أنها جزء من نظام الكون الذي وضعه خالق الكون. لكن الإنسان بخلاف باقي المخلوقات مدعو إلى بذل هذا المجهود الذي يميزه عنها، والذي يتجلى في انتقاله من مقام البراءة إلى مقام المسؤولية. وهنا يتميز كذلك بحرية الاختيار.
بعبارة أخرى، يلتقي الإنسان مع سائر المخلوقات في مسألة الإقرار بوجود الله تعالى، لكن الإنسان مفروض عليه أن ينتقل من مقام البراءة إلى مقام الوعي. لقد رأى النبي عليه الصلاة والسلام رؤيا في منامه في حقبة معينة من البعثة النبوية، كما جاء في السنة النبوية. حيث كان المسلمون الأوائل آنذاك في مكة في وضعية الاضطهاد حتى الموت. فرأى النبي عليه الصلاة والسلام رؤيا مفادها أنه رأى أبناء المضطهِدين في الجنة. وعندما سأله الصحابة عن هذه الرؤيا، أجاب أن الأطفال أبرياء في جوهرهم، وأنهم لن يؤدوا ثمن أخطاء آبائهم. يستدعي منا هذا الأمر استلهام عدة حقائق. أولا، لا يمكن نعت الإنسان بالمذنب قبل بلوغه التكليف.
إن مفهوم الخطيئة الأصلية الذي نجده في المسيحية، والذي يظهر بوضوح أكثر في « اعترافات » سان أغستان(Confessions de Saint Augustin) ، ليس له وجود مطلقا في العقيدة الإسلامية، لأنه لا أحد في الإسلام يتحمل أوزار الآخرين. وعندما نقرأ مثلا في سورة البقرة، في الآيات (35-38) والتي تتطرق إلى خطيئة آدم وحواء، فإننا نجد أمرين أساسيين يجب أن نشير إليهما. الأمر الأول يوحي أن آدم هو صاحب الخطيئة وليس حواء، أو هما معا، وهو ما يبرأ المرأة من الشعور بالذنب على إثر ارتكاب هذه الخطيئة، خاصة عندما نعلم أن الله تعالى غفر لهما هذه الخطيئة. فكل واحد يتحمل مسؤوليته الفردية في ما يفعله، ولا أحد يمكن أن يتحمل وزر الآخر. الأمر الثاني هو أن أبناء آدم وحواء لا يتحملون خطيئة أبيهم. إذن النظرة إلى الإنسان التي يمكن استخراجها مما ذكرنا آنفا تعتبر نظرة إيجابية، لأن المبدأ الذي يتم ترجيحه هو البراءة الأصلية. وكما ذكرنا آنفا، فالإنسان يمر من مرحلة البراءة التي تجعله مسلما خاضعا لإرادة الله بطبيعته، إلى مرحلة المسؤولية التي تجعله مسلما بوعي، وهذا يفسر جوهر الشهادتين : « أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله ».
بيان مفيد ومختصر للفطرة والتكليف.أسأل الله تعالى أن ينفع بالأستاذ طارق رمضان.