تلك القطرات هي هذه الأبيات التي وردت الى القلب :
محبوب، يغرق في أفق المغيب! ليس بمحبوب جميل، فالمحكوم عليه بالزوال لن يكون جميلاً حقاً ولا يحبه القلب، إذ القلب الذي خلق أصلاً ليعشق خالداً، ويعكس أنوار الصمد، لا يود الزوال ولا ينبغي له.
مطلوب، محكوم عليه بالأفول! ليس أهلاً أن يرتبط به القلب، ولا يشد معه الفكر؛ لأنه عاجز عن أن يكون مرجعاً للأعمال وموئلاً للآمال. فالنفس لا تذهب عليه حسرات، أتراك يعشقه القلب أو ينشده ويعبده؟
مقصود، يُمحى في الفناء ويزول! لا أريده. أنا لا أريد فانيا، لأني أنا الفاني المسكين، فماذا يُغني الفانون عني؟
معبود، يدفن في الزوال! لا أدعوه، ولا أسأله، ولا ألتجئ اليه، إذ من كان عاجزاً لا يستطيع حتماً من أن يجد دواءً لأدوائي الجسيمة ولا يقدر على ضماد جراحاتي الأبدية، فكيف يكون معبوداً من لا يقدر على إنقاذ نفسه من قبضة الزوال؟
وصال يعقبه الزوال مؤلم؛ هذه اللقاءات المكدرة بالزوال غير جديرة باللهفة، بل لا يستحق شوقاً وصال يعقبه فراق؛ لأن زوال اللذة مثلما هو ألم فان تصور زوال اللذة كذلك ألم مثله، فدواوين جميع شعراء الغزل- وهم عشاق مجازيون – وجميع قصائدهم إنما هي صراخات تنطلق من آلام تنجم من تصور الزوال هذا، حتى اذا ما استعصرتَ روح ديوان أيٍ منهم فلا تراها إلاّ وتقطر صراخاً أليماً ناشئاً من تصور الزوال.
فتلك اللقاءات المشوبة بالزوال، وتلك المحبوبات المجازية المورثة للألم، تعصر قلبي حتى يجهش بالبكاء قائلاً:( لا أحب الآفلين) على غرار سيدنا ابراهيم عليه السلام.
فان كنت طالباً للبقاء حقاً، وأنت ما زلت في الدنيا الفانية فاعلم:
أن البقاء ينبثق من الفناء، فجُد بفناء النفس الأمارة لتحظى بالبقاء!
افنِ كل خلق ذميم من نفسك، و جُد بما تملكه في سبيل المحبوب الحق. أبصر عقبى الموجودات الماضية نحو العدم فالسبيل في الدنيا إلى البقاء إنما تمر من درب الفناء.
ويظل « فكر » الإنسان السارح في الاسباب المادية في حيرة وقلق أمام مشهد زوال الدنيا، فيستغيث في قنوط.
بينما الوجدان الذي ينشد وجوداً حقيقياً يتبع خطى سيدنا ابراهيم عليه السلام في أنينه:( لا أحب الآفلين) ويقطع أسبابه مع المحبوبات المجازية ويحل حباله مع الموجودات الزائلة، معتصماً بالمحبوب السرمدي…بالمحبوب الحقيقي.
فيا نفسي الغافلة الجاهلة! يا سعيد اعلم!
فما دام في وسعك – يا نفسي – الوصول إلى مغزى هذه الموجودات الفانيات ولبّها، فاستمسكي بالمعنى، ودعي قشورها يجرفها سيل الفناء، ومزقي الأستار دون حسرة عليها.
فما دامت الروح قد كفت يدها عن الآفلين الزائلين، والقلب قد ترك المحبوبات المجازية، والوجدان قد أعرض عن الفانيات… فاستغيثي يا نفسي المسكينة بغياث إبراهيم عليه السلام:( لا أحب الآفلين) وانقذي نفسك.
الإمام سعيد النورسي