طارق رمضان : .[…] إن العُرْف الإسلاميّ-في جَوْهَرِهِ- لا يختزل الحقيقة أو الواقع في التعبير اللغوي، الذي نجده محدودا بالتأكيد. بعبارة أخرى، إذا كان الله موجودا، والحقيقة والواقع كذلك، وإمكاناتنا أيضا لاستيعاب الواحد، الذي هو الله، فإن حقيقته وخَلْقَه نِسْبِيَّان ومَحْدودان وغير مَوضوعِيين تماما. وحتى صمتنا كذلك. إن الاعتراف بِتَعَدُّدِ مصادر المعرفة هو ما قام بتطويره مُبَكِّراً علماء اللاهوت الفلاسفة والمتصوفة : نجد العقل بطبيعة الحال، ولكن القلب كذلك، والنفخة الباطنية، والجوهر، وطبيعتنا البشرية بشكل أوسع هي كلها مصادر للمعرفة. الوحي بهذا المعنى لا يُعَبِّرُ ولا يُقرأ فقط بالعقل. وهنا يجد القلب في الوحي مَنبعا لا ينضب، وتُسْتَدْعَى الحواس، ويَلِجُ الجَسَدُ إلى معرفة تَتَجَاوَزُ الكلمات والزَّمَان والمكان. إنها تجربة روحانية تَسْتَدْعِي العقل والباطن والجماليات. نحن لسنا بعيدين عَمّا تجدونه عند ڤيتغينشتاين، حتى لو كان الاختلاف الأساسي هو مفهوم الحقيقة ، بعيدا عن علاقة الوعي البشري بالموضوع. هل هناك شيءٌ يتجاوزُ العالَم بأكمله ويُعَبِّرُ عن نفسه خارج العالم؟ يعترف العُرْفُ الإسلامي بنسبيته الذاتية التي تتطلب العبر منهاجية ( أو تداخل المناهج)، في حين يُؤَكِّدُ على وجود السُّمو وحقيقته وحقيقة الموضوع الذي لا يَعْرِفُ الفاعل التّعبير عنه أو استيعابه كما هو. ليس هناك تصوف إسلامي، أو ديني بالمناسبة، في غياب حقيقة الواحد الأحد.
إن النَّظَر إلى أن نِسْبِيَّة الفعل العقلاني تَفْرِضُ أن يصبح العالم مُرتبطا بالعقل سيكون إغراءًا لغطرسة العقل. وعِلْماً بأن هذه النِّسبيّة واعيةٌ بمَحْدُوديتها وبكونها مجزأة، فإنها ستبني حقيقة على صُورتها تكون مُجَزّأة ومَحْدُودة. إن نَقْدَ العَقْل المُسْتَعلي يَبقى مُستعليا بكل مُفارقة إذا انتهى بإعادة بناء الواقع على صورته، باسم حدوده التي سَيَعْتَرِفُ بها. وهكذا نَجِدُ هنا مُقَارَبَةً مُزْدَوَجَةً : بداية، هناك مقاربة تَخُصُّ المَلَكَات البشرية المتعلقة بالمعرفة وهي متعددة، منها الفكرية والشعورية والباطنية وحتى الفنية، بعد ذلك، نجد العلاقة بالواقع، الذي نُقِرُّ بطابعه المُرَكَّب وتعقيداته، لكنّه يُخْفِي دائما حقيقة وجوهرا ونظاما معينا. في هذا الصدد، كان رَدُّ بيرغسون على الثورة الكوبيرنيكية لِصَاحِبِهَا كَانط في كتاب «البَيَانَات الفَوْرِيّة للوَعْي» وبعد ذلك في كتاب «الكائن والمتحرك» مُهِمّاً لأنه قام بمساءلة مَلَكَة المعرفة وأيضا التعبير والترجمة الباطنية الذي نجده عند ڤيتغينشتاين.
إدغار موران : أنا أَذْهَبُ في الاتّجاهِ نَفْسِه لكن بطريقة أُخْرى. ما أثارني كثيرا في التّاريخ الفِكْري لأوروبا الغربية، وخصوصا فرنسا، هو أنّه في فَتْرة الأنوار، أو في فترة العقلانية المُجَرَّدة- إذا صَحَّ القَول- كان هناك التصدي من قِبَلِ روسو منذ البداية، الذي كان له حس الشُّعور والطّبيعة. وقد تَبِعَتْها بعد ذلك الرُّومانسية التي كانت نَقيضها والأمة والطبيعة والانصهار… وأخيرا، مع الرُّومانسية المُتَأخّرَة، وهيجو وآخرين، تَطَوَّرَت فِكرة دَمْجِ العقلانية النَّقْدية للأنوار في تَصوُّر أوسع نِطَاقاً وأَغناه بكثير. ولهذا، فالمشكلة الحقيقية اليوم هي تَجَاوُز العقلانية المنغلقة والمحدودة، وتجاوز الحساسية المحضة دون عقلانية. أظن أننا نتقارب في هذه النُّقطة. أَوَدُّ أن أضيف كذلك أن تطور العلوم لم يكن متبوعا بامتحان النقد الذاتي للعلوم من طرف العلماء أنفسهم. إن الفلاسفة من أمثال باشلار وبوبير وآخرين هم من شَرَعُوا في القرن العشرين في مساءلة أسس العلوم، عندما أدركوا حدود الاستقراء والاستنباط؛ وأستحضر هنا نظرية عدم الاكتمال لغوديل؛ إذ نجد بعض الثورات العلمية لم تكن عقلانية، كتوطئة كونيك صاحب نَظرية البيانات التي جاء فيها مثلا : «كل شجرة لا مُتناهية بِتَفَرُّعٍ مُتَنَاهٍ يكون لها فرع لامُتَنَاهٍ» الأمر الذي يستدعي تطبيقا منطقيا لإثبات نظرية تراصّ المنطق التقليدي. ولذا، فقد أدركنا أن العلوم كانت أمرا بشريا، وأن ميزة العلم وميزة أية نظرية علمية ليست أن تكون صحيحة، ولكن أن تكون قَابِلَةً للنّقْد كما قال بوبير. الحقائق اللاهوتية هي الوحيدة التي لا يمكن تجاوزها، أما الحقائق العلمية، فمن الممكن تجاوزها.