إن الطرح المتكرر للتساؤلات المتعلقة بالعنف ووضعية النساء والإدماج أثناء الجدل الوطني والسياسي ليس أمرا بريئا، كما أصبحت قضية الإسلام بمثابة كرة المضرب تلعب بها الأحزاب لضرب مصداقية الخصوم السياسيين وكسب المزيد من الناخبين. بالإضافة إلى وجود نوع من تعميم الخطابات العنصرية والمعادية للأجانب، وتجاهل تام للإسلام كمكون أساسي للهوية الغربية، التي يعتبرونها حصريا هوية يونانية-رومانية، ومسيحية-يهودية، كما يتم اختبار المهاجرين، على الحدود لتقييم مدى مرونتهم الأخلاقية واختبار مدى صوابية القوانين الأمنية التي تفرض نفسها في فترات التوتر والاضطراب، دون أن ننسى الخطابات والسياسات المتعنتة التي تجرم المهاجرين وطالبي اللجوء.
المطلوب من المواطنين المسلمين لمواجهة هذه التحديات عدم الانجرار إلى ردود الأفعال الاعتيادية، فعوض أن ينسحبوا من المشاركة في النقاش العمومي، يجب أن يسمعوا أصواتهم ويخرجوا من منعزلاتهم الدينية والاجتماعية والثقافية والسياسية وأن يتواصلوا مع مواطنيهم. إن خطاب السياسيين الذين يوظفون الخوف لأغراض سياسية ينتج عكس ما يزعمون محاربته. كما أن المثقفين الذي يحذرون السياسين من السذاجة ومن خطر الإسلام وفشل المجتمع التعددي أو فشل مشروع التعددية الثقافية وباتهامهم للمسلمين على الدوام بعدم قدرتهم على الاندماج وانعزالهم وإقامة حواجز بينهم وبين هؤلاء، واتهامهم كذلك بعدم الانفتاح على الأديان الأخرى، فإنهم في حقيقة الأمر يزرعون بذور الشك والانقسام كما يعملون على تكريس ظاهرة عزل المسملين. إن المواطنين مدعوون إلى نقد صارم لهذه الخطابات التي تخفي الأيديولوجية التي يدعون إليها. إذن يجب محاربة هذه الخطابات الداعية إلى التطبيع مع العنصرية والتمييز وتشويه جزء من الساكنة وفاء لقيم ومبادئ المجتمعات الغربية.
إن الولاء المواطن الصادق هو الولاء النقدي، وبالتالي يجب أن نرفض منهجيا إثبات انتمائنا للمجتمع، كما يجب المطالبة بالحقوق المشروعة وعيا بالمسؤولية الملقاة على عاتقنا، ويجب كذلك نقد السياسات الحكومية عندما تخون قيم ومبادئ المجتمعات الديمقراطية.
« نحن جديدة »
إن أهم مشروع يمكن أن يساهم فيه المسلمون لصالح مجتمعاتهم هو مشروع المصالحة.إن المسلمين مدعوون إلى الالتزام في إطار هذا المشروع الذي يقتضي مصالحة المجتمعات الغربية بقيمهم ومبادئهم العليا، بكل ثقة في قناعاتهم وبحملهم لخطاب نقدي واضح وصارم، كما من واجبهم أن يكونوا على علم كامل بقيم المجتمعات الغربية وتاريخهم وتطلعاتهم ويجدر بهم أن ينخرطوا مع مواطنيهم في مشروع مصالحة هذه المجتمعات مع مبادئها العليا. لا يهم اليوم مقارنة النماذج أو التجارب الاجتماعية الغربية بالدخول في جدل عقيم حول أي النماذج أفضل، كما رأينا ذلك بين الولايات المتحدة الأمريكية وكندا وفرنسا وبريطانيا، لكن المهم هو تقييم جدي وصارم لكل مجتمع من خلال المقارنة بين المبادئ والقيم التي يدعو إليها مثقفوها وسياسيوها وبين الممارسات على أرض الواقع، فيما يخص احترام حقوق الإنسان والمساواة في التعامل بين الرجال والنساء، وبين جميع الفئات الاجتماعية مهما كان لونها ومهما كانت أصولها. ويجب إخضاع مجتمعاتنا إلى اختبار النقد البناء الذي يقارن بين الخطاب والممارسة، وهذا بالضبط هو الموقف السليم الذي يجب أن يتخذه المسلمون تجاه أمتهم كما يجدر بجميع المواطنين أن يتخذوه تجاه مجتمعاتهم.
إن مجتمعاتنا في حاجة إلى بزوغ « نحن جديدة »، التي تجمعنا رجالا ونساء، وتجمع المواطنين من جميع الديانات، وحتى اللادينيين، والذين يلتزمون من أجل الحد من تناقضات المجتمع، والمطالبة بالحق في الشغل، والسكن، والعمل على محاربة العنصرية والتمييز بجميع أشكاله، والنضال من أجل عدم المس بكرامة الإنسان. هذا الالتزام الاجتماعي يعبر عن حركية المواطنين الواثقين في قيمهم، والمدافعين عن التعددية داخل مجتمعهم المشترك، وعن تعدد الهويات، والذين يرغبون معا في الدفاع عن المثل والمبادئ العليا المشتركة في قلب مجتمعاتهم. يلتزمون معا -كمواطنين كاملي المواطنة و بروح الولاء النقدي- بثورة إعادة الثقة لمقاومة تفشي الخوف بين المواطنين، ولمواجهة الانفعالات وردود الأفعال الغريزية وحتى الهستيرية من خلال تفكير عقلاني وحوار جدي وضاغط والإنصات إلى الآخر ومن خلال مقاربة راشدة للقضايا الاجتماعية الشائكة والمركبة.
في الشأن الوطني والمحلي
إن مستقبل التعددية في المجتمعات الغربية رهين بالعمل وخلق مبادرات على المستوى المحلي. فمن المستعجل العمل على تأسيس حركة وطنية من أجل مبادرات محلية يعمل من خلالها الجميع، رجالا ونساء من جميع الأديان، والثقافات والحساسيات على خلق فضاءات مشتركة من أجل التعارف وبث أجواء الثقة. هذا المشروع المشترك هو الكفيل بتأسيس هذه الجماعة المواطنة الجديدة. نحن بالتأكيد في حاجة ماسة إلى حوار بين الثقافات وبين الأديان، لكن لن يكون هذا الحوار أكثر فعالية من التصدي لبعض الملفات الاجتماعية المستعجلة من قبيل التربية، والانقسام الاجتماعي، وانعدام الأمن، والتمييز العنصري.
معا يجب أن يسائلوا البرامج التعليمية ويقترحوا مبادرات تقوم بإدماج الذاكرة الجماعية التي تشكلت منها المجتمعات الغربية المعاصرة. لقد شهدت هذه المجتمعات تغيرات ملحوظة، ويلزم على المسؤولين أن يدمجوا مسألة تعددية الذاكرة في تدريس التاريخ، خصوصا في أحلك المراحل ، فبجانب عصر الأنوار، والتقدم العلمي والتكنولوجي، يجب التطرق إلى العبودية، والاستعمار، والعنصرية، والمجازر الجماعية، بكل موضوعية وبدون استعلاء أو شعور أبدي بالذنب. ويجب أن يكون تدريس تاريخ الأمم الأخرى التي ساهمت في تاريخ الغرب الحالي رسميا. كما يجب العمل على المستوى الاجتماعي من أجل ضمان التعددية في المدارس والمدن، من خلال إقرار سياسات اجتماعية وحضرية أكثر جرأة وإبداعا، كما يجب على المواطنين إطلاق مبادرات في إطار مشروع الديمقراطية التشاركية والمحلية. ويجدر بالسلطات المحلية مصاحبة هذه المشاريع وتيسير سبل تحقيقها وتشجيع مثل هذه المبادرات المحلية.
لن تنتصر المجتمعات الغربية في معركتها ضد العنف وانعدام الأمن والمخدرات عن طريق المقاربات الأمنية فقط. بل من الضروري خلق مؤسسات اجتماعية، والتربية على المواطنة، وخلق فرص الشغل على المستوى المحلي، وبث أجواء الثقة في المجتمع. فبإمكان السلطات المحلية أن تضع حدا لأجواء عدم الثقة التي تسود في المجتمع، وفي المقابل، ينبغي للمسلمين كمواطنين، ألا يترددوا في التواصل مع المسؤولين المحليين فضلا عن تذكيرهم أن الديمقراطية تقتضي أن يكون المنتخب في خدمة الناخبين وليس العكس.
ومن المستعجل الالتزام بالقضايا الوطنية وعدم الانجرار إلى عواطف الساحة الدولية. كما يجب صياغة خطاب نقدي حول تدبير ملف الهجرة، فلا يمكن نهب ثروات العالم الثالث وتجريم المهاجرين الذين يفرون من الفقر ومن تسلط الأنظمة الدكتاتورية.إنه أمر مجحف ولاإنساني وغير مقبول على الإطلاق. أن تكون صوت من لا صوت له في العراق وفلسطين والتيبت والشيشان وأن تكون صوت النساء ضحايا العنف خصوصا النساء الافريقيات المصابات بمرض السيدا في حين أن الأدوية متوفرة، يعني ذلك أن تعمل على تحقيق المصالحة باسم المبادئ الغربية التي تدعو إلى الكرامة وحقوق الإنسان والعدالة التي يتم ازدراؤها بسبب حسابات السياسيين، والمصالح الجيوستراتيجية. إن الثقة المتبادلة على الصعيد المحلي وتبني المقاربة النقدية الشمولية في زمن العولمة هما الكفيلان بفتح أبواب المصالحة بين الحضارات.
إن ثورة إعادة الثقة، والولاء النقدي، وميلاد نحن « جديدة » هي المعالم الكبرى للمشروع الذي يجب أن ينخرط فيه المواطنون بكل مسؤولية في المجتمعات الغربية، والذي يمكن أن يأخذ شكل مبادرات محلية ووطنية. لأن الكل يسعى إلى جني ثمرات الأخلاقيات المسؤولة والكل يسعى إلى تعزيز الثروة الثقافية الغربية مهما كان الثمن، لأن استمرارها رهين بإبداع سياسات خلاقة جديدة. إن المواطنين مدعوون إلى العمل بنفس طويل، بعيدا عن رهان الانتخابات التي تشل عمل السياسيين وتحول بينهم وبين صياغة سياسات جديدة مبتكرة وشجاعة. وعندما يكون المنتخب في الطريق المسدود ولم يعد يملك أفكارا ووسائل جديدة، فالناخب المواطن مدعو في هذه الحالة إلى العمل و المطالبة بالوسائل الكفيلة لتحقيق المبادئ والمثل العليا المنشودة.
د.طارق رمضان
ترجمة صلاح شياظمي