بداية و قبل كل شيء، هل تعتبر أن الحوار مع إدغار موران بمثابة تواصل بين أحد المعجبين و بين إحدى مثلك الفكرية العليا؟
بالطبع لا، لقد قرأت لإدغار موران وأكن له كامل الاحترام، لكني لا أدخل في نطاق هذا الاعتبار. فأنا لا أملك هذا النوع من التقارب مع الناس و لا أستطيع أن أعيش هذا النوع من الإحساس. رغم ذلك، هناك أناس يفرضون علي احترامهم في بعض المواقف. أذكر على سبيل المثال مانديلا الذي خرج من السجن وتوجه إلى الذين فرضوا عليه الإقامة الجبرية لمدة 25 سنة بخطاب يتعالى عن العنف الذي كان ضحيته. أنا لا أحبذ العواطف التي تتخطى المبادئ. أحترم خصوصا جرأته الفكرية. لكن لا شيء يدعوني إلى الانبهار.
كيف تنظر إلى أولئك الذين يفتتنون بك؟
أعتقد أنهم يجب أن يعالجوا ويراجعوا أنفسهم (يضحك). إن الافتتان بمعنى أو بآخر، يتجازوٍني شخصيا. فأنا لا أستوعب إضفاء صبغة المثالية على الأشخاص. فالبعض يمزجون أحيانا بين خطابي المثالي الذي أدعو إليه و بين شخصيتي. فأنا أظل كائنا بشريا معقدا، بعيوبي و جروحي وتناقضاتي التي أعمل على محاربتها. و أعتقد أن جميع الأفكار تبقى موضع التساؤل و النقد.
أحيانا، وحتى في أوربا وفي بعض دول العالم، يعتبرني البعض زعيمهم المبهم الذي يثير إعجابهم، لأنني في نظرهم، ومن خلال خطاباتي، أعكس آلامهم وإحباطاتهم ، لكني أرى هذا الأمر خطيرا خاصة بالنسبة لأولئك الذين يعتبروني زعيما كاريزماتيا يتخذونه قدوة لهم. إن الانبهار السلبي المتأصل يعمي البصيرة.
هل تدركون مسؤولية خطاباتكم تجاه الشباب الفرنسي ذووا الأصول العربية ؟
نعم، إنها مسؤولية كبرى، لكني أكرر مرة أخرى، أني لست ناطقا رسميا باسمهم. أنا أضع الكلمات على المشاعر والتجارب التاريخية التي تمس الشباب وتمس تاريخ أجدادهم و ثقافتهم.
ألا ترى أن مسألة إحياء بعض الجروح التاريخية في أجواء تتسم بالتعقيد مسألة لاواعية أو بالأحرى خطيرة؟
نعم، ربما…لكن هذه الجروح موجودة. وبصراحة لو أصغوا إلي جيدا ، لأدركوا أني أدعوا إلى المصالحة بدل الاستفزاز. إن مشروعي هو مصالحة فرنسا مع قيمها. فالحديث عن حقوق الإنسان و الحريات في هذا البلد، في حين أن الممارسات في الواقع تختلف و تتناقض أمر غير مقبول. لكني أدرك أن خطابي السلمي المعلن في مناخ جماعي هستيري يتم تأويله بشكل سيء. يمكن أن أتصور جيدا أن كلامي قد يزعج ويصدم البعض عندما أقول أشياء معقولة، وفي اللحظة غير المناسبة،. ولكن في الأساس، ليس الأمر هو كون كلامك صائبا أو خاطئا، لكن الأمر هو متى يجب أن نتكلم و كيف نتكلم.
ألا ترى أن الهدف الأساسي من الكتاب هو تخفيف حدة الانتقادات التي تتعرض إليها و تلميع صورتك؟
بالطبع لا. فحياتي ليست هي فرنسا…أنا أعيش في الغرب وأسافر في معظم الأحيان، و مستوى الإقبال الذي أحظى به يجعلني أعتقد أن سمعتي يتم تشويهها فقط في فرنسا. و بصراحة، فأنا لست في حاجة لإدغار موران لكي يكون كلامي مسموعا. فالذي أثار اهتمامي في الكتاب الحواري، هو أن لدينا مسارين يتناقضان بشكل كامل و أتينا من آفاق مختلفة، لكن رغم كل ذلك تمكنا من التحاور بشكل هادئ. فالكتاب أعتبره لبنة من لبنات مشروعي الشخصي الذي يمتد إلى أكثر من ثلاثين سنة و الذي يتجلى في المصالحة.
لماذا سمعتك سيئة في فرنسا، في حين يعتبرونك في البلدان الأخرى صوتا يمثل الاعتدال؟
لأن فرنسا هي فرنسا! في نظري، هناك 3 أسباب جوهرية. بداية، علاقة فرنسا بالشأن الديني علاقة معقدة و ذات طابع انفعالي. ثم هناك صراعات تاريخية مرتبطة بالاستعمار. ففرنسا لديها مشكلة حقيقية مع الذاكرة الاستعمارية، حيث تأتي الجزائر في القائمة و كذلك المغرب و الدول الإفريقية، إضافة إلى تبني فرنسا سياسة واضحة في في مرحلة ما بعد الاستعمار. أخيرا، تعترض فرنسا مشاكل سوسيو-اقتصادية حقيقية التي يتحتم عليها أن تحلها عاجلا. أنا أعبر فقط بصوت عال عما يحسه أغلبية المواطنين وما يشعرون به إزاء هذه السياسة التقشفية و إزاء بعض الحقائق التاريخية و الاجتماعية.
ما رأيك في سياسة الرئيس هولاند و وزيره الأول؟
نعيش اليوم مرحلة الترقيع السياسي هدفها الفوز بالانتخابات، وليس صياغة مشروع مجتمعي ملموس ومحرر. فعندما يغيب المشروع السياسي الملموس، تلصقٌون التهمة بالمهاجرين وتعتبرونهم العدو الجديد من أجل خلق الجدل و تجاهل المشاكل الحقيقية. لقد حاولت أن أتحاور في العديد من المناسبات مع الوزير الأول منيوال فالس، لكنه يرفض التحاور و التواصل بشكل قاطع. إنه يكرهني. إن وجود رئيس وزراء يفترض أن يكون يساريا وهو إلى حد الآن في « يمين اليسار »، مع تبني سياسة تقشف حقيقية، هو أبعد ما يكون عن سياسة العدالة الاجتماعية. لم يعد لفرنسا مشروعا وبات حكم هولاند يفتقر إلى رؤية واضحة. لقد آن الأوان بكل وضوح أن تتحمل فرنسا مسؤولياتها السياسية والاجتماعية و أن تأخذ بعين الاعتبار التنوع الذي تمتاز به.
كانت قضية العلمانية مثار خلاف بينكما. لماذا تعترضون على حيادية الفضاء العمومي؟
حذاري ؛ فعندما تتحول العلمانية كإطار مرجعي إلى « علمانوية » تقصي الدين، فإنها تنحرف عن مسارها الأصلي. أنا أصلا ضد العلمانية و ضد الأصولية العلمانية. كما أعترض على الذين يحولٌون المرجعية العلمانية إلى نوع من العقيدة أو دين جديد و يحملونها مالا تحتمل. أنا ضد الأيديولوجية العلمانية التي تعترض على الدين و تريد أن تمحوا جميع الرموز الدينية. حقيقة، ليس هناك في نظري فضاء محايدا، هناك فضاءات تكتسي طابع التنوع. فالحيادية هي كل ما تعودنا عليه. و في نظري العلمانية هي فضاء مفتوح لجميع الأديان. كما أن الفضاء المحايد هو الفضاء الذي يقبل تنوع الرموز والأطياف. إلى أي حد نريد أن نصل بهذه الحيادية؟ يجب أن نتربى على التنوع، و هو ما سيوحد الجمهورية.
بخصوص القضية الفلسطينية، قلتم أن دعم شباب الضواحي لهذه القضية أمرا غير معيب في حد ذاته؟
أولا، إن وقوف شباب المدينة إلى جانب المضطهدين ليس أمرا معيبا. وما يبدو لي إيجابيا هو هذا الوعي الشبابي بقضايا الحيف و المطالبة بالحقوق والصراع ضد التمييز الذي يعيشه الفلسطينيون. هذا الوعي الشبابي على المستوى المحلي تجاه القضية الفلسطينية ومسألة العدالة الاجتماعية أمر بالغ الأهمية بالنسبة لهم، لأنهم يعيشون بطريقة أو بأخرى نفس السياسية بأشكال متفاوتة . فالجميع يتحدث عن العدالة الاجتماعية، لكن لا أحد يتحدث عن الفلسطينيين. ففي فرنسا، يعتبر الحديث عن القضية الفلسطينية أمرا صعبا للغاية، لكون المتدخلين في وسائل الإعلام غالبا ما يقدمون بشكل منهجي تبريرا للسياسة الإسرائيلية. إضافة إلى وجود أصوات أكثر إصغاء من أصوات أخرى، نذكر على سبيل المثال برنارد هنري ليفي، أو فينكيلكروت… بخصوص القضية الفلسطينية، هناك بوضوح ميزانان للقوى ومعياران، و هذا الأمر لم يعد يحتمل.
أليس لديكم الانطباع كما تقولون أن العرب رجالا و نساء لا يملكون نفس القيمة التي يحظى بها اليهود ؟
بالتأكيد، هذه حقيقة! مثلا في غزة سنة 2006 ، تم قتل ما بين 1400 و 2000 مدنيا فلسطينيا، و تم أسر جندي من الجانب الإسرائيلي، الذي تطلب تحريره الإفراج عن آلاف المعتقلين الفلسطينيين، لكن عندما يتعلق الأمر بحرية هؤلاء ،يتذرعون بحجة حماية إسرائيل. هل يبدو لكم هذا الأمر طبيعيا؟ اليوم، بالتطبيع مع هذا الإجحاف، هناك أمر أصبح بديهيا في جميع أنحاء العالم؛ فالقتلى العراقيون و الآسيويون و العرب في اليمن لم تعد لهم قيمة تذكر، لكن عندما يتعلق الأمر بقتل جندي بريطاني أو فرنسي أو أمريكي، فهذا الحدث يصبح عنوانا رئيسيا لوسائل الإعلام. فعندما نعطي للإنسان قيمته الحقيقية، تصبح مطالبته بحقوقه قضية كاملة المشروعية.
د.طارق رمضان
ترجمة صلاح شياظمي