إدغار موران: لقد صدقتم عندما تحدثتم عن حجم الاستعمار، لا سيما في الجزائر التي تحررت منه عبر الحرب التي خاضتها ضد فرنسا. فهناك شعور بالاستياء لم يتم احتواؤه نتيجة نزع ملكية السيادة الجزائرية من الجانب الفرنسي. كما أن القضية الفلسطينية لعبت دورا أساسيا في بلورة وترسيخ فكرة التمييز، وازدواجية المعايير. هذه الازدواجية لا تبرر دائما من طرف الغرب عموما، بل غالبا من فرنسا، بكون الإجراءات التي تتخذها إسرائيل ضد فلسطين تصبو إلى الدفاع عن مصالح الغرب. لقد سبق أن كتبت عن القضية الفلسطينية واصفا إياها بالورم الخبيث الذي سينشر خلاياه القاتلة ليس في المحيط الأطلسي فحسب، بل في جميع أنحاء العالم ، لأن القدس لها مقام لا يخلو من دلالات رمزية عند ملايين المسلمين والمسيحيين، وحتى عند بعض الآلاف من اليهود، وبالتالي سيستمر هذا الورم. وعندما يقول البعض أن هذه القضية لها طابع محلي ولا تمس سوى الفلسطينيين والإسرائيليين، فهي محاولة لحجب البعد الدولي والكوني للقضية.
طارق رمضان: تعتبر القضية الفلسطينية قضية جوهرية بالفعل. فمواقفي التي اتخذتها حول هذه القضية كانت سببا من أسباب تشويه سمعتي. لقد كان البعض يقول لي مرارا: « لا تتكلم عن هذه القضية، وإلا ستفتح عليك بعض الأبواب ». أعتقد مثلكم أن القضية لها تأثير دولي وعالمي، ليس فقط في الشرق الأوسط، بل إن آثارها تمتد إلى أبعد الحدود في العالم التي تشهد توترا في العلاقات بين الحضارات والأديان. ولهذا السبب قلت لأصدقائي المسيحيين: « لا تجعلوها قضية إسلامية- يهودية، بل قوموا أنتم كذلك باتخاذ موقفي مسيحي! ». إن القضية سياسية ويجب أن تطرح للنقاش. ولذلك يجب على كل الأصوات الدينية أن تعبر معا، وتؤكد على المساواة في الحقوق لجميع الأديان من حيث الاعتراف بالأماكن المقدسة، وبالممارسة الدينية . إن الصمت حيال هذه القضية قد يجر أخطارا كبيرة…
كلود هنري ديبور : اسمحوا لي أن أذكركم بمثال آخر في التاريخ، وهو الشاعر والروائي الفرنسي جان جينيه، والذي دفع الثمن غاليا.
طارق رمضان: نعم، تماما!
كلود هنري ديبور : كلفته غاليا مواقفه السياسية التي اتخذها لصالح ياسر عرفات في سنوات الثمانينيات. أعتقد أن الذين نتهمهم بالضعف لأنهم يتخذون مواقف واضحة، هم في الحقيقة أقدموا على خيارات لم تستوعب بشكل جيد.
طارق رمضان: نحن ندفع دائما ثمن المواقف التي نتخذها. ويبدو لي فيما يخص هذه النقطة تحديدا، أن من الواجب اتخاذ موقف لا لبس فيه. يجب أن نكون قادرين على التعبير بكل قوة وبإصرار أننا نرفض العنف. وبالمقابل يجب أن نطور مفهومنا للعدالة، فإذا لم تتحقق العدالة، فإن العنف سيبقى ساري المفعول. وبدون تحقيق حد أدنى من العدالة، فالعنف لن يتوقف. إن الصمت المتواطئ الذي يقبل بكل أشكال الجور في الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني، ينتج العنف في الحقيقة أكثر من خطابي النقدي والضاغط و الموجه أساسا إلى تحقيق السلام.
إدغار موران: فيما يخص فرنسا التي تحدثتم عنها ، يجب القول أن هناك ظاهرة شبيهة بعزل مجموعات كبيرة من الشباب التي تنتمي إلى أسر مهاجرة، تكون في غالب الأحيان مفككة. لقد تم نبذ هؤلاء الشباب، ونعلم جيدا أن المنبوذين ينبذون كل من ينبذهم. هناك أيضا مظاهر الكراهية المتبادلة، والصراعات التي تتفاقم في ظل إهمال وتقصير السلطات. وإذا شاهدتم ما يقع في الضواحي الفرنسية وفي فلسطين، وإذا تذكرتم الاستعمار الذي لم يتلاش من الذاكرة، وعقدة التفوق التي يحس بها الفرنسي الأبيض تجاه المستعمرين السود في إفريقيا السوداء أو في إفريقيا الشمالية، فإننا نكون أمام هذا الحجم الكبير من سوء الفهم الذي يفسر جزئيا الوضعية التي تتحدثون عنها.
كلود هنري ديبور : أليس المشكل أكثر خطورة؟ تريد فرنسا أن تكون دولة علمانية، رغم أنها لم تتمكن من وضع تعريف لهذه العلمانية وحتى التفكير فيها، فهي لم تتوقف من تعديلها واستكشاف سبل جديدة، كما لم تتوقف من النظر إليها كحل شاف لجميع المشاكل المجتمعية. ألا ترون أن فرنسا لديها مشكلة حقيقية مع العلمانية؟
إدغار موران: نعم، هذا صحيح. أعتقد أن المشكل مزدوج. بداية، بالنسبة للعلمانية التي فرضتها فرنسا الجمهورية في بداية القرن العشرين ضد فرنسا الملكية التي كانت رجعية وكتابية، يمكن أن أقول أن الفصل بين الكنيسة وبين سلطة الدولة، إضافة إلى علمنة التعليم، كان من الفتوحات الكبرى في تاريخ الجمهورية. كما يمكن القول أن العلمانية خلال فترة كبيرة من القرن العشرين، كانت سببا في تعارض المعلمين في الأرياف، حاملي لواء العقل والتنوير والديمقراطية، مع الكهنة أنصار الرجعية الدينية والملكية المطلقة. من هنا جاءت فكرة أن كل ما له علاقة بالدين يحمل في طياته الرجعية والخرافة والخطأ والوهم. بالطبع، يمكن أن نقول أن العلاقات في فرنسا تحسنت مع المسيحية، بحكم وجود المسيحية اليسارية، والمسيحية الديمقراطية، إضافة إلى كون الكاثوليكية مختلفة تماما الآن على ما كانت عليه في 1990.
شكرا جزيل على التنوير العلمي