جهاد النفس
إن مجاهدة النفس البشرية هو أعظم عمل يجب أن يقوم به الإنسان حتى تكون أعماله موافقة لشرع الله. وهنا يجب أن نشير مرة أخرى إلى الانتباه جيدا إلى أهمية المصطلحات المستعملة ومدلولاتها كذلك. ففي إحدى المحاضرات، كنت قد أشرت إلى مصطلح الجهاد، وقد وصل بعض الأشخاص متأخرين، وسمعوا هذا المصطلح أثناء دخولهم إلى القاعة التي عقدت فيها المحاضرة، دون أن يستوعبوا مسبقا ما المقصود منه في الشريعة الإسلامية. فتدخل أحد هؤلاء الأشخاص، وقال أنه ما دام المسلمون يتحدثون عن الجهاد و »الحرب المقدسة »، فلا يمكن لغير المسلمين إلا أن يكونوا في صراع دائم مع المسلمين. لكن هذا الشخص لم يكن على علم بالتفسير المفصل لهذا المصطلح والذي عرضته أثناء غيابه، خصوصا تركيزي على مفهوم « المجاهدة » أي مجاهدة النفس. إذن لا يمكن أن نزعم أننا فهمنا معاني بعض المصطلحات المثيرة للجدل إلا إذا أحطنا بالمصطلح من جميع جوانبه، وأحطنا بما قد تحتمل معانيه من فوارق، كما ينبغي وضع المصطلح في سياقه التاريخي.
إن جهاد النفس هو ذلك المجهود الذي يقوم به الإنسان حتى يكون جديرا بإنسانيته، وذلك بمغالبة أهوائه وقوى الشر الكامنة فيه من عنف وغضب وجشع وأنانية. إذن نلاحظ أننا هنا بعيدون كل البعد عن مدلول « الحرب المقدسة » . لكن يحدث لنا في غالب الأحيان أن نستعمل بشكل غير سليم بعض المفاهيم التي تكون مرتبطة بسياق تاريخي معين، فنقوم بإسقاطها على سياقات تاريخية أخرى ونلبسها نفس المعاني ونعطيها نفس المدلولات، رغم تباين الظروف العامة. لقد كانت الحروب الصليبية مثلا تعتبر حروبا مقدسة من الجانبين معا. فقد كان المسلمون الذين تم الاعتداء عليهم يستعملون مصطلح الجهاد، بمعنى المقاومة، بحكم أنهم كانوا يمثلون الطرف المحاصَر والمعتدى عليه. لكن تمت ترجمة كلمة الجهاد بشكل متسرع بمصطلح « الحرب المقدسة »، دون تبيين الفوارق التي تحملها معاني الجهاد، وتم بكل بساطة تحويل معنى الحروب الصليبية في الفضاء المسيحي. إذا كان من معاني الجهاد الحرب، أو القتال بمعنى المقاومة، فالمصطلح يبقى حاملا لمعاني عديدة ومعبرة أكثر : فهو يعني مجاهدة النفس وحملها على المكاره حتى تستقيم لأمر الله وتتعرض لنفحاته. فالعمل القلبي الروحي هو الذي يجعلنا نشعر بإنسانيتنا ونشعر بقربنا من الله تعالى.
إذن هناك نقطتان نستنتجهما من مفهوم المجاهدة؛ بداية لا يمكن أن نغض الطرف عن مفهوم الصرامة على مستوى القلب والوعي، وهما بعدان أساسيان في الحياة اليومية للمسلمين بشكل عام. هذه الدعوة إلى الصرامة (exigence) تستدعي منا تحمل المسؤولية والالتزام بثبات . يجدر بنا إذن أن نكون فاعلين في التاريخ، ومؤثرين في واقع مجتمعاتنا، لا أن نكون متفرجين أو ضحايا بشكل أبدي. إن المسلم إذن مسؤول فيما يخص الالتزام بأخلاق الإسلام والإسهام بشكل فعال وحقيقي في المجتمع الذي ينتمي إليه، كما يجدر بالمسلمين أن يحسنوا تدبير شؤونهم بكل جدية، وشؤون الإنسانية جمعاء بشكل عام.
النقطة الثانية، تتطلب مسارا معاكسا، تقتضي الرجوع إلى الذات والعمل على ضبط سلوكيات النفس. فإذا لم تتمكن بعض الثقافات من استيعاب أو قبول مثل هذه الرؤية، فالإسلام يدعو إليها على غرار بعض الثقافات كالبوذية والهندوسية واليوغا، وباقي الروحانيات التي تجعل من السلوك الروحي هو أساس كل إصلاح. نجد مظاهر هذا السلوك الروحي في الذكر، والصلوات الخمس، والصيام، والزكاة، والحج. تتطلب منا هذه الفرائض نوعا من الصرامة مع الذات، من حيث ضبط غرائز الجسد وإنفاق المال والوقت، لأن صلة الإنسان بخالقه رهينة بمدى عمله على ضبط سلوكه وتربية نفسه.