علي سعد
« أنا من بلد يشوبه التناقض. في يناير 2015 نزل ملايين الأشخاص إلى الشوارع دفاعاً عن مبدأ حرية التعبير، أما اليوم فيكاد يكون من المستحيل أن أجد مكانا في باريس حيث يمكنني إجراء مناظرة مع طارق رمضان! » هذه الكلمات هي لآلان غريش، رئيس التحرير السابق لجريدة لوموند ديبلوماتيك، خلال مؤتمر مشترك مع طارق رمضان الشهر الماضي في مدينة بروكسل البلجيكية.
تعكس ملاحظة آلان غريش هذه الواقع المحزن للوضع الذي آلت إليه حرية التعبير في فرنسا في السنوات الأخيرة، وخاصة في أعقاب الهجمات الإرهابية التي ضربت البلاد العام المنصرم حيث أخذ الموضوع الأمني حيّزاً كبيراً من اهتمام الحكومة الفرنسية على حساب الحريّات العامة، ما أسفر عنه تهميش القضايا الهامة كالبطالة والأزمة الاقتصادية والعدالة الاجتماعية. وقد ألقى مناخ الخوف هذا بظلاله على أي صوت يتجرأ على مساءلة السياسات الحكومية أو الخطاب الإعلامي المروّج لهذه السياسات. أحد هذه الأصوات هو طارق رمضان الذي ما برح في مرمى النيران.
« فرنسا هي الدولة الوحيدة في العالم التي لا يمكن أن أجد فيها موطئ قدم لي في الجامعة »، هكذا صرح رمضان خلال مؤتمر عُقد في صالة خاصة في مدينة نيس الفرنسية الشهر الماضي. وكان رمضان قد مُنع مؤخرا من إلقاء محاضرات في الأماكن العامة في مدينتي باريس وبيزييه الفرنسيتين. وفي مدينة اورليان، عارض مناصرو الحزب الاشتراكي بشدة قدومه للمدينة لإلقاء محاضرة. كما سعى رئيس بلدية بوردو، ألان جوبيه، جاهداً كي يمنعه من إلقاء محاضرة في المدينة.
تأتي هذه المحاولات لإسكات المفكّر والأكاديمي طارق رمضان، ذي الخبرة الواسعة بقضايا الإسلام والتيارات الإسلامية، في وقت تحتل فيه القضايا المتعلقة بالإسلام والمسلمين حيزا مهما في النقاش العام في فرنسا وأوروبا. وتعود حملة التشويه المتعمد لرمضان لعدة سنوات مضت، غير أنها اشتدت في أعقاب الهجمات الإرهابية ضد المجلة الساخرة شارلي ابدو. فلشهور عدة انتقدت وسائل الإعلام والصحف رمضان لرفضه اعتماد شعار « أنا شارلي » بالرغم من إدانته الواضحة والصارمة للهجمات الإرهابية. ومع ذلك لم تمتنع وسائل الإعلام والسياسيين الفرنسيين من ذمّه لتجرّئه على انتقاد سياسة « الكيل بمكيالين » من قبل المجلة، ولإقالتها في الماضي لرسام كاريكاتير (يُدعى سينيه) سخِر من « إمكانية اعتناق نجل ساركوزي للديانة اليهودية « ، بينما، وفي نفس الوقت، تطالب هذه المجلة بحرية تعبير مطلقة ودون قيود حين يتعلق الأمر بالسخرية من الإسلام أو النبي محمد (ص)!
كل ذلك يحدث بالتوازي مع أجواء مناهضة للإسلام والمسلمين، حيث ضجت وسائل الإعلام والمنابر بتعابير تهين الإسلام والمسلمين بشكل شبه يومي. بعض الأشخاص كالصحافي كإيريك زمور نادى ب »ترحيل المسلمين »، وحثّهم « على الخروج من الإسلام لأن « الإسلام لا يتماشى مع الجمهورية ونمط الحياة الفرنسية » ؛ كذلك الأمر بالنسبة للصحافي فيليب تيسون الذي اتهم المسلمين « بجلب المصائب لفرنسا ». وكذلك فعلت مؤخراً الوزيرة الفرنسية لشؤون الأسرة والأطفال وحقوق المرأة (لورونس روسينيول) عندما قارنت النساء اللواتي يرتدين الحجاب ب « الزنجيات اللواتي تقبلن العبودية »!
في ظل هذه الأجواء المشحونة والمناهضة للإسلام والمسلمين، تتواصل الحملة المغرضة على رمضان. ولو تساءلنا عن ماهية الانتقادات والادعاءات الموجّهة إليه، لوجدنا الخطاب نفسه يتكرر على ألسنة منتقديه، حيث يتهمونه « بالغموض »، و »ازدواجية الكلام » والعمل على « أسلمة أوروبا » ألخ. كل ذلك دون تقديم أي دليل ملموس يثبت صحة تلك الادعاءات، فيما عدا التذكير الدائم بجذوره العائلية (كونه حفيد حسن البنا، مؤسس جماعة الإخوان المسلمين) كحجة لإثبات ادعاءاتهم.
خطاب طارق رمضان
أمام هذه المشهد، يمكن لأي فرد يتمتع بحد أدنى من الموضوعية والعقل النقدي الاطلاع على خطاب وكتابات رمضان للتحقق من طبيعتها وما إذا كانت تتسم بالغموض أو الازدواجية. لأن نهجا موضوعيا كهذا يمهّد لفهم أفضل للخلفية الفكرية لدى رمضان. وباعتماد هذه المنهجية، ندرك بأن رمضان لا يحمل أي مشروع سياسي من شأنه أن يضعه في موقع خصومة مع التيارات والأحزاب السياسية في فرنسا، ما يمكن أن يبرر لاحقا المواقف العدائية تجاهه من قِبَل منتقديه السياسيين ووسائل الإعلام الدائرة في فلك هؤلاء.
كتابات وخطابات رمضان تعكس مقاربة علمية ومنطقية للأمور التي يتناولها، دينية كانت أم غير دينية، بعيدا عن الأسلوب التبشيري، فهو يحلّل ويفكّك وينتقد سياسة الحكومة وخطاب النخبة الحاكمة والنخب المؤثّرة مع تسليط الضوء على العيوب والتناقضات التي تعتريها، ويقدّم المعطيات والأدوات التي تسمح لجمهوره وقرّائه بتقييم الأمور موضوعياً وبناء آرائهم على أسس منطقية وعلمية بعيداً عن تأثير المشاعر والانتماءات العرقية. وفي محاضراته، يسعى رمضان لإسلام أوروبي خالٍ من أي نفوذ أجنبي، كما يدعو الحكومات إلى اتباع سياسات تعزّز المساواة الاجتماعية واعتماد قوانين مكافحة التمييز لأن من شأن تلك القوانين والإجراءات المساعدة على منع التطرف الديني من التجذّر بين الفئات المجتمعية، خاصة المهمّشة منها.
يشجّع رمضان المسلمين الفرنسيين على التفكير، والكلام، والعمل والتفاعل كمواطنين بصفة كاملة، وذلك بتغليب المواطنة على الانتماء العرقي والخروج من خانة الضحية التي يستسهلها البعض كمبرر لأوضاعهم المتردّية. ويحثهم أيضا على مساءلة السياسات الاجتماعية والاقتصادية لحكوماتهم، ورفض الظلم والتمييز؛ والتعاطي بعقلانية مع الافتراءات اللاذعة التي تطالهم. هذا الجهد، كما يقول، يسير بالتوازي مع المسؤولية التي تقع على عاتقهم للمساهمة في تطوير المجتمع، ما يجعل منهم عناصر فاعلة في حياتهم اليومية ويخرجهم من موقف المتفرّج السلبي على مصيرهم. وهو يطالب النخبة السياسية والمثقفين ووسائل الإعلام بإبداء نفس مستوى الاحترام والاعتبار لجميع ضحايا الإرهاب بغض النظر عن الدين أو العرق أو البلد الذي ينتمون إليه.
وتستند واحدة من المقاربات الرئيسية لدى رمضان على النهج الذي يُعرّف التعايش الاجتماعي باعتباره التفاهم المتبادل ليس فقط على أساس الاعتراف بأوجه التشابه بين مكوّنات المجتمع، ولكن أيضا على ضرورة إيجاد وعي مجتمعي يحترم اختلافات هذه المكوّنات. والتعايش الذي، كما يقول، يشمل العمل المشترك والاعتراف بالذاكرة التاريخية لمختلف مكونات المجتمع. وفي كتابه « مقدمة في الأخلاق الإسلامية« ، يؤكد رمضان على ضرورة بدء الحوار بين الأديان والثقافات حول القيم الأخلاقية المشتركة للتفكير في أسباب اضمحلال هذه القيم؛ في معنى ودور الدين والدولة وسلطات الاقتصاد في مجتمعاتنا، لا سيما في ظل التحديات الهائلة التي تواجهها هذه المجتمعات، بما في ذلك الإرهاب.
كل هذه المفاهيم والكتابات يتم تجاهلها تماماً من قِبل وسائل الإعلام وأوساط المثقفين، باستثناء بعض العقول النيّرة في فرنسا، كعالِم الاجتماع البارز إدغار موران، الذي اشترك عام 2014 مع رمضان بكتابة كتاب بعنوان « خطورة الأفكار » (حيث ناقشا فيه التعليم والعلوم والفنون والعلمانية وحقوق المرأة وحقوق الأقلّيات ومعاداة السامية والكراهية ضد الإسلام، بالإضافة إلى الديمقراطية والأصولية والعولمة) أو كرئيس التحرير السابق لصحيفة لوموند، ادوي بلينيل، أو آلان غريش، رئيس التحرير السابق لصحيفة لوموند ديبلوماتيك، الذين يعقدون معه محاضرات ومناقشات فكرية بشكل منتظم.
أصوات تُدين الحملة ضد رمضان
هؤلاء المثقفون يدينون التهميش الفكري الذي يتعرّض له رمضان، ويشددون على ضرورة محاورته عملاً بمبدأ حرية التعبير، بغض النظر عن وجود أو عدم وجود اختلافات معه حول بعض القضايا. ومن هذا المنطلق شارك ألان غريش وإدغار موران، مع آخرين، في الآونة الأخيرة في كتابة مقال في صحيفة لوموند يدعون فيه لعدم استبعاد رمضان من النقاش العام.
من هنا، وفي ظل نظام ديمقراطي يحترم قيَمَه الدستورية التي تحفظ حق الفرد في التعبير بطريقة سلمية، وفي ظل حكومة من مهمّاتها العمل على تعزيز التماسك الاجتماعي ومحاربة التطرف الديني، فإنه من غير المنطقي أن يُصار إلى تحويل طارق رمضان إلى عدو، إنما المنطق في جعله حليفاً موضوعياً والتعامل معه على أساس القيمة الأكاديمية والفكرية الغنية التي يمثلها والتي يمكن الاستفادة منها، خاصة في ظل الأوقات العصيبة التي يشهدها العالم وفرنسا، لا سيما (وليس حصرا) لإعادة الاتصال والتواصل مع المواطنين المسلمين، نظرا لمدى إيجابية صدى خطاب رمضان عند هؤلاء.
نظرا لهذه الحقائق، وفي الوقت الذي يتعاظم فيه الجدل والنقاش حول الإسلام والمسلمين في فرنسا وأوروبا، السؤال هو: ما الذي يمكن أن يبرر هذا العداء لأكاديمي ومفكّر خبير في الإسلام مثل رمضان، وما السبب في شيطنته بهذه الطريقة؟ هل يكمن السبب في سِمات طارق رمضان التي تتحدى الصورة النمطية العنصرية التي تختزل العرب و/أو المسلمين؟ تلك الصور النمطية التي تعمل على ترويجها الأوليغارشية والإعلام الفرنسيَين والتي تقلل من شأن المواطن المسلم وتضعه في خانة محددة سلفا كإنسان جاهل، غير متعلم وبالكاد يتقن اللغة الفرنسية، وتُقدّمه باستمرار كمصدر أزمات لمحيطه الاجتماعي والمهني، وفي الحالات النادرة حيث تُعطى له مساحة للتعبير، فبهدف تعزيز تلك الصورة النمطية. أفضل مثال على تلك النمطية شخص يُدعى حسن شلغومي (يشغل منصب إمام لجامع مدينة درانسي في ضواحي باريس) تنبذه أغلبية المسلمين الفرنسيين وتروّج له وسائل الإعلام الفرنسية وتمنحه شهرة ومساحة تعبير مع أنه لا يتقن اللغة الفرنسية ويتلعثم في الكلام، عدا عن عدم اختصاصه بالإسلام.
أم السبب في المنطق الذي ينتهجه رمضان في تفسير سياسات الحكومة وفضح حجج العصابة الفكرية التي تعمل على ترويج هذه السياسات؟ أم لما يمثله النقاش مع رمضان من خطر حقيقي لمنتقديه، حيث يضعهم في مواجهة مع تناقضاتهم أمام الرأي العام ويكشف خداعهم الإعلامي؟
بهذا المعنى، فإن تقديم رمضان ك « العدو المسلم » المحلّي الذي تواجهه فرنسا يخلق قضية وطنية مزيّفة من شأنها منح الحكومة هامش لتحويل انتباه الرأي العام عن التحديات الاجتماعية والاقتصادية الحقيقية التي يُفترض أن تعالجها الدولة.
كل ذلك إن دل على شيء إنما يدل على صعوبةٍ ما لدى الجمهورية الفرنسية في قبول والاعتراف بالتغيير الذي طاول التركيبة المجتمعية في فرنسا في العقود الأخيرة، وما يترتب على ذلك من مسؤولية الاعتراف بالطبيعة التعددية للمجتمع الفرنسي الحالي. لذا، فإن توفير مساحة تعبير حرّة لأكاديمي من عينة رمضان وإظهار بعض الاعتبار والاحترام لأفكاره وآرائه، يرقى إلى مستوى اعتراف رسمي بهذه التعددية، والمسؤوليات التي تترتب على الدولة كنتيجة لهذا الاعتراف من مساواة وعدالة اجتماعية، وهذان هما أهمّ محوران يتناولهما ويناقشهما رمضان في معظم محاضراته وكتاباته.
مُترجَم عن المقال الأصلي
http://www.aljazeera.com/indepth/opinion/2016/04/tariq-ramadan-demonised-france-160406100710313.html