هذا المقال هو مقطع من الحوار الذي دار بين طارق رمضان وإدغار موران والذي نشر في كتاب « خطورة الأفكار » ( المترجم).
طارق رمضان : هناك نقطة أظن أننا لسنا متفقين بصددها، وأود معرفة وجهة نظركم حولها. عندما أحاول فهم الأزمات التي تعترض العالم العربي، ينتابني شعور بالقلق بل بالذهول. فهناك جدل عقيم يجمع العلمانيين والإسلاميين الذي يبررون صوابية مواقفهم من خلال انتقاد الخصم المعارض. نحن هنا أمام سياسة العواطف وإذكاء المخاوف وتصعيد المواقف التي تقوم عليها عقلية الضحية. في تونس ومصر وفي كل المنطقة، نشهد نقاشات أيديولوجية زائفة تتخذ طابعا شعبويا بالمعنى الذي عرفت به المصطلح قبل قليل. وفي الوقت الذي تعصف فيه الأزمة بهذه الدول بكامل قوتها، لا نكاد نجد حديثا عن محاربة الفساد، وعن الخيارات الاقتصادية الممكنة، والنماذج التربوية ودور النساء والثقافة، إلخ. إن القضايا الحقيقية مغيبة لديهم، ويفضلون الصراع حول مؤسسات الدولة وصياغة الدساتير. لقد انتهينا في نهاية المطاف بالقبول بإجماع بالدور الرئيسي الذي تلعبه مؤسسات بريتون وودز (Bretton Woods) المتمثلة في كل من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. ومن المفروض أن تخرج الديمقراطية منتصرة بمعجزة من هذا التطور الذي لا يعدو أن يكون في حقيقة الأمر استلابا بثوب جديد…
أنا أوروبي وأعيش في الغرب، حيث أرصد يوميا حقيقتين لا يمكن أن نتغاضى عنهما عندما نتكلم عن الديمقراطية والحرية. الحقيقة الأولى تتجلى في السلطة الهائلة التي يحتلها الحقل الاقتصادي والذي يفرضه سيادته على جميع مؤسسات الدولة. يمكن بالتأكيد أن نتكلم عن الديمقراطية وسلطة الدولة، لكن هذه السلطة تبقى نسبية، لأن الشركات متعددة الجنسيات، والأبناك، والتكنوقراط هم أسياد اللعبة. إن الأزمة الأخيرة أكدت مرة أخرى هذه الحقيقة، إذا لم يزل هناك شك. الحقيقة الثانية متعلقة بالأولى بشكل مباشر، وتتجلى في العلمانية التي تعني فصل السلطة الدينية عن سلطة الدولة، وهذا كان إنجازا كبيرا.
لكننا ندرك اليوم أن مكانة الدين لم تبق شاغرة، وأن السلطة الاقتصادية هي التي تفرض توجهاتها على الدولة. وفي الحقيقة، يمكن نعت هذه السلطة بجميع الأوصاف إلا أن تكون ديموقراطية. فالقرارات بعيدة كل البعد عن الشفافية، ولا يتم التشاور حولها. لقد سبق أن صرح بيل كلينتون يوما أن الولايات المتحدة الأمريكية يحكمها 1% من الساكنة الأمريكية، إشارة إلى الأثرياء الآتين من عالم المال والاقتصاد. لقد كانوا يرغبون في عالم محرر من الرقابة الدينية، وهاهم أمام رقابة الكنيسة الجديدة المتمثلة في عالم الاقتصاد والمال. فجميع الدول تجد نفسها مخنوقة الأنفاس، وهامش الحرية لديها ضيق جدا.
إن النتائج والخلاصات منذرة بالخطر، فتفويض السلطة التي يمنحها المواطنون للدولة يبقى أمرا نسبيا، إن لم نقل هامشيا ووهميا، إضافة إلى غياب الشفافية. كما أن جوهر الديمقراطية النابع من مسلسل اتخاذ القرارات غالبا ما يكون خديعة، وغياب الأخلاق في السياسة أصبح الآن هو القاعدة أينما ذهبت. » الأخلاق لا تكفي، كما قلتم، ومن الواجب استيعاب ما يجري في العالم، وتخزين المعرفة اللازمة لهذا الغرض ».
إدغار موران: التخزين وربط الأشياء ببعضها البعض.
طارق رمضان : ليكن ذلك. لكن أود أن أخرج من هذه الحلقة المفرغة من خلال الفضاء الذي أنتمي إليه. من اللازم بالتأكيد فصل سلطة الدولة عن السلطة الدينية، ويجب كذلك مرة أخرى تجنب فصل الدولة عن السياسة والأخلاق. ونفس الشيء بالنسبة للاقتصاد، وكذلك بالنسبة لجميع مجالات العمل البشري. إن مقاومة جميع أشكال الشعبوية تعتبر في نظري مقاومة ذكية، ومقاومة يقوم بها العقل الجاد والقائم على الأخلاق والمبادئ والقيم والفضائل بلغة القدامى. هذا يبقى صحيحا في السياسة كما يبقى صحيحا في عالم المال والإعلام والثقافة والرياضة… فمنطق كلامكم يعني أنه لا يمكن أن « أحسن الاستيعاب » إلا إذا كانت لدي مبادئ وسلم قيم، وإلا فإن استيعابي سيكون في آخر المطاف تقنيا وأداتيا وواقعيا وشبه ميكانيكي.
إن السمة المميزة للملاحظة البشرية هي الاعتراف بالذاتية الواعية. إن إضفاء طابع الموضوعية أو الذاتية على أي أمر دون مسلمة الوعي التي تقوم بالضرورة بعملية التقييم، يفتح في نظري الطريق إلى الانحراف، يعني إلى تجريد الإنسان من إنسانيته، وتحويلنا إلى أشخاص انفعاليين يستجيبون للمثيرات ويتفاعلون معها أكثر مما يتفاعلون مع الأفكار. فالأفكار تستدعي الوعي، والوعي في حاجة إلى مبادئ وأخلاق. هذا الأمر أصبح بديهيا اليوم، خصوصا مع الإعلام الموجه للجمهور : فهل يتعلق الأمر باستيعاب وفهم بعض الأحداث، أو باستيعاب سيرورة تاريخية؟ يعني هل نتفاعل مع أحداث بسيطة ومتفرقة، أم نتفاعل مع تاريخ بشري مركب؟ كيف يمكننا أن « نحسن الفهم والاستيعاب » وأن نربط هذه المعلومات ببعضها البعض؟ هل هذا الأمر ممكن؟
إدغار موران: طبعا. إن المعرفة لا تكمن في تراكم المعلومات فحسب، بل في قدرتنا على إدماجها واستيعابها في سياقها حتى تصبح أكثر وضوحا. وهذا هو بالضبط عمل الصحفيين وكتاب الافتتاحيات. وهذا نابع من أخلاقياتهم الداخلية. فما هي شروط المعلومة الصحيحة؟ إن الشرط الوحيد هو تعدد مصادر المعلومة. فبدون هذا التعدد، يمكن نشر الإشاعات التي لا تصدق. وقد حدث هذا الأمر بالضبط مع الاتحاد السوفياتي، والصين الماوية (La Chine maoîste) . وهكذا احتفل العديد من المثقفين الفرنسيين بالثورة الثقافية كمعجزة، في حين أن القتلى كانوا يعدون بالملايين. إن تعدد مصادر المعلومة، بالإضافة إلى تعدد وسائل التعبير وتعدد الجرائد بمختلف التوجهات، وتعدد القنوات التلفزية، هو الشرط السياسي والاجتماعي للحصول على معلومات سليمة. لكن لا يجوز أخلاقيا القول : » أنا سأعمل على إنتاج المعلومة الجيدة ». لقد ذكرت في هذا الصدد مثال الإكواطور. فأنا معجب بما يحدث هناك، مع تحفظ قليل، حيث بدأ الرئيس الإكواطوري كوريا (Correa)في إدانة بعض الجرائد المحسوبة على المعارضة، باتهامها بنشر بعض الحقائق المزيفة. هذا صحيح بدون شك، لكن يجب أن تكون حرية الإعلام مقدسة. فحيثما وجدت المقدس، أحاول أن أضع فوقه رداء الأخلاق.
فيما يخص قضية الديموقراطية، أود أن أقول أنها في حاجة إلى تجذر تاريخي طويل المدى. لقد تطورت عبر عدة مراحل من خلال الحرب الأهلية الأمريكية مثلا، وتطورت كذلك في الدول التي لم تعرف غزوا من الخارج كإنجلترا. إن فرنسا التي ظهرت فيها الديموقراطية في أبهى صورها، غرقت فورا في الرعب والبونابرتية وبعدها في نظام فيشي. وحتى ألمانيا التي كانت أكبر دولة مثقفة في أوربا، غرقت في الهتليرية. لقد رأينا كذلك في اليونان دكتاتورية العسكر الذي كانوا في رتبة العقداء (colonels) . وبالتالي فالكلام عن الديموقراطية الأوروبية كتراث مكتسب ليس صحيحا. فالمشكلة الكبرى تكمن في تجذر الديموقراطية وترسيخها. أتذكر هنا ما اقترحه الأديب والروائي الروسي سولجنتسين في زمن الاتحاد السوفياتي : » لنبدأ من القاعدة، لنبدأ من البلدية ».
طارق رمضان : تقصدون الديموقراطية التشاركية.
إدغار موران : بالضبط. إن الديموقراطية في بلداننا توجد في وضعية الركود، فليس هناك تنوع بما فيه الكفاية، وفي المقابل هناك الكثير من قضايا الفساد. فالمواطنون لم تصبح معنوياتهم متردية فحسب، بل لم يعودوا يمتلكون وسائل إعلام تتطرق إلى بعض القضايا العلمية والتقنية كالشأن النووي مثلا.