لقد اصطفى الله تعالى نبيه محمدا، عليه الصلاة والسلام، من خيرة خلقه، ليكون مثالا للفضيلة. كان الغرض الأساسي من رسالته، ونبوته، هو الدعوة إلى عبادة الواحد الأحد، وتمكين الناس من امتلاك رؤية جديدة جديدة للأشياء، وللكون، ولسائر المخلوقات، كما كان مدعوا، عليه الصلاة والسلام، لمرافقة الناس ليستقيموا على هذه الأمور. كان أثر الآيات والسور الأولى، التي نزلت وحيا من عند الله، على قلوب استنارت للتو بنور الإيمان، كفيلا بتغيير كامل للنظرة السطحية السائدة، التي كان يحملها الناس آنذاك عن العالم، وعن أنفسهم. قال تعالى :
« إقرَأ بِاسمِ رَبِّكَ الَّذي خَلَقَ، خَلَقَ الإِنسانَ مِن عَلَقٍ، اقرَأ وَرَبُّكَ الأَكرَمُ، الَّذي عَلَّمَ بِالقَلَمِ، عَلَّمَ الإِنسانَ ما لَم يَعلَم » سورة العلق، الآيات 1-5
هذه المعاني الأولى للتوحيد، ستصبح أوضح وأجلى من خلال فهم جديد، واستيعاب عميق لآيات الله، وسنته في خلقه. من هنا جاء نداء الله تعالى للمؤمنين بالتدبر في الكون، والتفكر في غاياته. قال تعالى :
« سَنُريهِم آياتِنا فِي الآفاقِ وَفي أَنفُسِهِم حَتّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُم أَنَّهُ الحَقُّ ۗ أَوَلَم يَكفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلىٰ كُلِّ شَيءٍ شَهيدٌ »سورة فصلت الآية 53
سيكون الكون، باعتباره الكتاب المنشور، وبمشيئة الله تعالى، هو تأكيد وسند للكتاب المسطور، الذي يتجلى في الوحي الإلهي، كما سيكون دليلا على وجود الخالق، وهذا ما تأكده العديد من الآيات التي جاءت في كتاب الله تعالى، والتي تحث المؤمنين على تحقيق رؤية جديدة للكون يغذيها الإيمان بالله :
« تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبعُ وَالأَرضُ وَمَن فيهِنَّ ۚ وَإِن مِن شَيءٍ إِلّا يُسَبِّحُ بِحَمدِهِ وَلٰكِن لا تَفقَهونَ تَسبيحَهُم ۗ إِنَّهُ كانَ حَليمًا غَفورًا »سورة الإسراء الآية 44.
هذا الأمر، إلى جانب الإقرار بوحدانية الله، هو تعبير عن روحانية عالية ستفتح آفاقها للمؤمنين، رجالا ونساء. إن الأمر يتعلق بنظرة جديدة للعالم، قال تعالى :
« الشَّمسُ وَالقَمَرُ بحسبان وَالنَّجمُ وَالشَّجَرُ يَسجُدانِ » سورة الرحمان الآية 5
وهكذا، فإن حساب مسار الكواكب والنجوم أمر يمكننا إدراكه فكريا، لأنه حقيقة ملموسة ومرئية، وبالتالي، فالجزء الأول من الآية موجه بكل جلاء إلى عقولنا. أما الجزء الثاني، فهو يستدعي قلوبنا ورؤيتنا الباطنة للأمور، لنرى هذا السجود المستمر للنجوم والشجر. ولذلك، فمن الواضح أن الإيمان في عمقه ، هو طريق خاص يتيح لنا إدراك واقع جديد نصل إليه – أو ينبغي أن نصل إليه – على مقربة مما يبدو غير موجود أوغير واقعي، لأن الرسالة القرآنية تميز بين نوعين من الإدراك، أحدهما حسي والآخر روحي، بيد أنهما أمران حقيقيان. قال تعالى :
« أَفَلَم يَسيروا فِي الأَرضِ فَتَكونَ لَهُم قُلوبٌ يَعقِلونَ بِها أَو آذانٌ يَسمَعونَ بِها ۖ فَإِنَّها لا تَعمَى الأَبصارُ وَلٰكِن تَعمَى القُلوبُ الَّتي فِي الصُّدورِ »سورة الحج الآية 46
إن التفكر في العالم وفي الذات، والتأمل في الغاية التي من أجلها خلق الله تعالى هذا الكون، هو الخطوة الأولى نحو فهم عميق للإيمان، وتحقيق القرب من الخالق، وهذا ما يفسر بكاء النبي عليه الصلاة والسلام، في إحدى الليالي التي كان يقوم فيها بالتهجد، عندما جاءه الصحابي بلال (رضي الله عنه) عند أذان الفجر فلما رآه يبكي قال : أتبكي يا رسول الله ؟ قال : كيف لا أبكي و قد نزلت علي آيات من فوق سبع سماوات، وتلى: » إِنَّ في خَلقِ السَّماواتِ وَالأَرضِ وَاختِلافِ اللَّيلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الأَلبابِ »سورة آل عمران الآية 190
ثم قال عليه الصلاة و السلام: » ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها ».
لم يكن النذير أو الخوف من العقاب هو ما جعل النبي عليه الصلاة و السلام يبكي ، بل كان سبب البكاء هو ما تجلى له من المعنى الحقيقي والخالص لهذا الكون، والذي كان ينعكس بجلاء في إشارات وآيات بادية للعيان، والتي تعكس عبودية المخلوقات المطلقة للخالق عز وجل. لكن ذلك فقط لمن يستطيع أن يرى، ويشعر، ويسمع، ويستمع؛ ولمن كان قادرا على الفهم بقلبه، أما سواهم، فهم أولئك الذين يميلون إلى إنكار الحقيقة ، والذين جاء في وصفهم قوله تعالى :
» لَهُم قُلوبٌ لا يَفقَهونَ بِها وَلَهُم أَعيُنٌ لا يُبصِرونَ بِها وَلَهُم آذانٌ لا يَسمَعونَ بِها » سورة الأعراف الآية 179
هذه هي المرحلة الأولية لإدراك هذه الحقيقة النافذة؛ فكل شيء في هذا الكون يشهد على وجود الله سبحانه وتعالى، طالما تحققت صفة التقوى، التي تأكد بدورها حقيقة القرآن في قلوب المؤمنين، بدليل قوله تعالى :
» ذٰلِكَ الكِتابُ لا رَيبَ ۛ فيهِ ۛ هُدًى لِلمُتَّقينَ » سورة البقرة الآية 2
طارق رمضان