حاجة المسلمين اليوم إلى الرُّوحانيَّة

حاجة المسلمين اليوم إلى الروحانية*

يجدر بنا التنبيه إلى أن المجتمعات ذات الأغلبية المسلمة والمجتمعات العربية تفتقر إلى الروحانية على نحو خطير. فليس هناك نقص في الدين، وإنما في الحياة الروحانية التي تقوم على غذاء وتهذيب الروح. وهو أمر يمكن ملاحظته في صفوف الإسلاميين والعلمانيين والمواطنين العاديين على حد سواء. والمقصود بالدين هو هذا الإطار العام وبنية الشعائر والحقوق والواجبات التي يتعين على المؤمنين الالتزام بها، ولذا يحتل مكانة متميزة في النقاش السياسي والاجتماعي. وفي التراث الإسلامي، نجد أن الطريقة المثلى لفهم الإطار والمرجعية والممارسات لا تكون إلا عبر ربطها بغاياتها ومعانيها، بمفهوم الحياة والموت، بحياة القلب والعقل، يستوي في هذا الإسلام مع سائر الأديان والنظم الروحية الأخرى. ومع ذلك فإن الخطاب الإسلامي المعاصر كثيرا ما يفقد جوهره؛ هذا الجوهر الذي يتمثل في المعنى، وإدراك الغايات الأساسية وفهم حالة القلب. وتم اختزال هذا الخطاب في صورة رد الفعل، والانشغال بالحماية الأخلاقية للمؤمنين استناداً إلى اجترار القواعد والشعائر، وقبل كل ذلك استنادا إلى المحظورات والمنهيات. لكن الروحانية ليست مجرد إيمان بلا دين، وإنما هي البحث عن المعاني وسكينة القلب باعتبارها جوهر هذا الدين. وإذا نظرنا إليها بهذا الشكل، يتبين لنا عندئذ أن المجتمعات الإسلامية محرومة من تلك السكينة والترابط والسلام. وقد حان وقت التحرر الديني والروحي.

إن انحسار الحضارة الإسلامية، وما تلاه من استعمار، كان له أثره تماماً مثلما كان لتجربة المقاومة الثقافية والسياسية. وتغيرت النظرة إلى الدين والمرجعية الإسلامية تدريجياً لتتكيف مع احتياجات هذه المقاومة: فبالنسبة للعلماء والحركات الإسلامية (التي تحدوها في بادئ أمرها طموحات صوفية) برزت على الساحة المبادئ الأخلاقية، والقواعد المتعلقة بالمطعم والملبس وإقامة الشعائر، باعتبارها وسيلة لتأكيد الذات في وجه خطر الاستعمار الثقافي والتغريبي الذي تشهده المجتمعات العربية.

ونتيجة لانخراط الحركات الإسلامية في المقاومة السياسية، بدأت هذه الحركات في التركيز تدريجياً على قضايا ذات طبيعة شكلية دون الالتفات إلى الجوهر الروحي للممارسة الدينية. وبين خطاب المؤسسات والسلطات الدينية التقليدية وخطاب الإسلاميين، سواء اتسم بالصرامة في منظوره أو غلب عليه التحرر السياسي، لم يحصل العامة إلا على قدر قليل من الإجابات في إطار رحلة البحث الروحي عن المعاني والإيمان والقلب والسلام.

وهنا نشأت فجوة واسعة؛ وظهرت الحركات الصوفية من جديد، وبعضها صادق في احترامه للقواعد، بينما البعض الآخر مدلّس محتال، وجاء ظهورها كنوع من الاستجابة للطموحات الشعبية. وجدير بالذكر أن الحركات أو الدوائر الصوفية مختلفة متنوعة، ودائماً ما تتبنى أسلوب العزلة والبعد عن الشؤون الدنيوية بخلاف ما عليه الناشطون الإسلاميون أو أصحاب المدرسة التقليدية الطقوسية. وتطلب الدوائر الصوفية من الشخص أن يركّز في نفسه، في قلبه وراحة باله؛ وأن يبقى بعيداً عن أي جدل سياسي أو اجتماعي لا طائل من ورائه.

وهناك خاصية محددة تتميز بها الدوائر الصوفية إذ تجمع بين صفوفها – في مجموعات منفصلة – النخب المتعلمة التي تبحث عن المعاني والغايات علاوة على المواطنين العاديين وبينهم الفقراء من العامة الباحثين عن السكينة والطمأنينة التي تقترب عادة من الخرافة. وغالبا ما تكون تعاليمهم عامة مثالية بعيدة كل البعد عن تعقيدات الواقع؛ أما من الناحية السياسية، فقد يقفون من السلطة الحاكمة موقفاً سلبياً أو داعماً بقوة حتى مع الأنظمة الديكتاتورية.

وعلاوة على ذلك، فإن عدداً كبيراً من الدوائر الصوفية يقع أسير إغراءات مزدوجة تتمثل في التمحور حول شخصية شيخ الطريقة أو المرشد والافتتان بها علاوة على التعامل مع المريدين معاملة الأطفال؛ وقد يكون المريد على قدر عالٍ من المستوى التعليمي ويشغل مكانة مرموقة في المنظومة الاجتماعية إلا أنه في الوقت ذاته يسْلم قلبه وعقله وحياته طواعية للمرشد الذي يمثل سبيل الفلاح له. وثقافة عدم التمكين هذه تعكس على نحو عجيب الوضع السائد في أيامنا هذه: حيث مزيج من الانسحاب من العالم والعيش في نوع من الارتباك الوجودي بين التدفق العاطفي (مشهد التوقير والتبجيل المبالغ فيه لكبار الصوفية من الممكن أن يكون خطيرا ومقلقاً) والتنسيب والولادة[1] الروحية التي تحتاج إلى جهد كبير. وهذا التنسيب ينبغي له أن يحرر المرء ويفتح الباب أمام الاستقلال عبر السيطرة على الذات، ويؤدي إلى نوع من الاتساق والترابط بين الحياة العامة والخاصة. لكن بدلاً من ذلك تنشأ أكثر من حياة متوازية: تنضم فيها الروحانية الصوفية المزعومة إلى السلوك الأناني الطامع الذي يتمحور حول الذات، بل وتنضم في بعض الأحيان إلى السلوك السياسي والاجتماعي الفاسد. وتجد النخب العربية والطبقات المتوسطة هذا السلوك في صالحها، وكذلك القطاعات الأخرى الهشة اجتماعياً.

وبين الطقوسية المهيمنة لدى المؤسسات الدينية الرسمية والتسييس المفرط لدى قيادات الإسلاميين، فإن التعطش للمعاني، الذي يجد نفسه في المرجعيات الدينية والثقافية، يسعى لإيجاد طريق للتعبير عن نفسه. وهنا تبرز الصوفية لتقدّم الحل. إلا أنه ينبغي التدبر ملياً في الأثر الفعلي لهذه الظواهر، نظراً لأنها تسهم بشكل ما في أزمة الروحانية، وبالتالي في أزمة الدين. وفي كل الحالات، لا تشجّع التعاليم الموجودة على الاستقلال والرفاهية والتحلي بالثقة لدى البشر في حياتهم اليومية الشخصية والاجتماعية. ونجد المؤسسات التقليدية التي تمثل الإسلام، تهتم بالشكليات وتصب تركيزها على القواعد، فتنتج لنا ثقافة مزدوجة للتحريم والتجريم. وتتحول السلطة الدينية إلى مرآة يُدعى إليها المسلمون للحكم على أنفسهم وعلى نقائصهم: وخطاب كهذا لا ينتج عنه إلا القلق والارتباك. إن المنهج الذي يتبعه الإسلاميون ويسعى إلى تحرير المجتمع من النفوذ الأجنبي قد أسفر على المدى البعيد عن ثقافة رد الفعل والمفاضلة، وثقافة الحكم على الآخرين: من هو المسلم، وما هو المشروع من الناحية الإسلامية. وهيمنت الفاعلية السياسية والاجتماعية على الاعتبارات الروحية؛ وغطي الصراع على السلطة على البحث عن المعاني.

وللتعامل مع هذه الفجوة، دعت غالبية الدوائر والحركات الصوفية مريديها إلى التركيز على أنفسهم من الداخل، على قلوبهم وعبادتهم وعلى السلام الداخلي. وفي هذا الإطار ظهرت ثقافة الخلوة والانعزال والسلبية السياسية والاجتماعية وغياب المسؤولية، كما لو أن الروحانية أمر يتعارض بالضرورة مع الفاعلية والمبادرة. ومع ذلك، لا بد من التنويه إلى أن بعض الحركات الصوفية تتحدث في الشأن السياسي والاجتماعي، وتحث أتباعها على ذلك، وعلى الانخراط في المجتمع بفاعلية. وبين ثقافة التحريم والتجريم وثقافة رد الفعل والظهور بمظهر الضحية، بين التخلي عن المسؤولية والانعزالية، ما هي الخيارات المتبقية أمام العالم العربي ليتصالح مع تراثه الديني والثقافي والروحي؟ ما الذي ينبغي فعله لتقديم ثقافة الرفاهية والاستقلال والمسؤولية؟

هناك حاجة لإعادة اكتشاف الروحانية التي تغلغلت في الثقافات الشرقية، وتحتل مكانة متميزة في التراث اليهودي والمسيحي والإسلامي، وهو اعتبار لا يمكن للانتفاضات السياسية والاجتماعية الحالية أن تجازف بتجاهله. إذ لا يمكن أن تكون هناك ديموقراطية حقيقية ولا تعددية في أي مجتمع من المجتمعات في ظل افتقار أفراده ومواطنيه وجماعته الدينية إلى الرفاهية.


* تم نشر المقال الأصلي باللغة الإنجليزية بتاريخ ٢٤ فبراير ٢٠١٢

http://tariqramadan.com/english/2012/02/24/contemporary-muslims-are-in-need-of-spirituality/

[1] المترجم: الكلمة الإنجليزية الواردة في الأصل هي Initiation ويقصد بها الانتساب إلى طريقة صوفية، ويصبح الشخص مريدا (initiate).

2 تعليقات

  1. Salam alaikoum, merçi chikh de nous avoir rapeler l’importance de la spiritualité, c’est d’ailleurs ce que j’ai remarquer en moi car ce coté spirituel me manque beaucoup. alors comment combler ce vide!! svp guidez-moi je suis vraiment perdus.

  2. مقال جيد يطرح معضلة الروحانية في عصرنا بين تقلصها عند الحرفيين وتأججها عند الصوفيين …وبين ذاك وذاك ضاع الإعتدال الذي هو روح الإسلام !
    جزاك الله خيراً استاد رمضان ودمت متألقاً

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا