المرأة والمجتمع والمساجد

المرأة والمجتمع والمساجد*

       في بعض الأوقات، البدء بمسائل بسيطة ملموسة -وهذا لا يعني كونها سهلة التناول- في التعامل مع القضايا المحيطة يكون ذا أهمية كبيرة. غالباً ما تتجمع المجتمعات ذات الأغلبيَّة المسلمة والأوساط الإسلاميَّة في الغرب أو أفريقيا أو آسيا حول المساجد التي تؤدي بطريقة أو بأخرى دوراً مهماً في توجّه المجموعة وجمود تفكيرها، وغالباً ما يتم التقليل من  شأن هذا الدور عند التصدي لقضيَّة المرأة: فيجري التركيز على الزيّ والوضع العائلي والحضور الاجتماعي ـ ولا عيب في الاهتمام بهذه المسائل الفرعيّة ـ لكن على أن لا يُتجاهَل ذلك الحيّز المهم الذي يمثّل من الناحية الفعليَّة أغلب المشكلات التي تضعف المجتمعات الإسلاميَّة اليوم.

المسجد حيّز ديني يعبّر عن فكرة سلطة معيّنة ومنهج تناول وتوزيع للأدوار، وهذه النواحي الثلاث نواحٍ أساسيَّة تؤثر في النفسيَّة الجماعيَّة للمسلمين وتشعّ بالمواقف والسلوكيات في الحياة اليومية. وهذا ليس بالأمر الجديد، فمن السهل ملاحظة الدور المركزي الذي تقوم به المساجد منذ فجر الإسلام، وما من شك في أنّ بناء المسجد في زمن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) قد شكّل معنى مهمّاً لوجود المسلمين وتكيّفهم مع مكان إقامتهم الجديد. فقد بدأت حياتهم الاجتماعيَّة بالالتفاف حول المسجد، كما حدث في المدينة المنورة؛ حيث كانوا يؤدون صلواتهم اليوميَّة ويعقدون حلقات التعليم والتدريب، ويستقبلون الرجال والنساء فضلاً عن الزوار، ويؤانسون الفقراء ويزاولون النشاطات كافة ذات الصلة في المسجد. وفي سياق التفافهم حول المسجد، كان لإمكانيَّة الوصول إلى المسجد ومشاركة النساء والرجال لمساحاته أهميَّة بالغة: إذ رحّب مسجد النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) بالسيدات وكان الالتزام بتعليمهنّ مساوياً للالتزام بتعليم الرجال، وكذلك كان الاعتراف بدورهن الاجتماعي اعترافاً بدهياً، كما نرى على سبيل المثال لا الحصر دور السيدة أم سلمة زوجة النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) وابنته فاطمة (رضي الله عنهما). واليوم، العلاقة بالمساجد يجب أن توضع في قلب المقاربة الشاملة التي تعمل على تقييم الإصلاحات التي يجب الالتزام بها والأولويات التي يتعيّن احترامها.

وللأسف، نجد أنّ المساجد اليوم أصبحت مساحات الرجال، وهذا لا يناظر المقاصد العليا لرسالة الإسلام البتة. وإن وُجِدت أحاديث نبويَّة عديدة تشير إلى أفضليَّة أداء المرأة صلواتها في بيتها، لكنّ جل رسالة الإسلام فضلاً عن أفعال النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) تكفي لإثبات أنه يتعيّن فتح المساجد للنساء من دون قيد. ففي المسجد النبوي، اصطفّ الرجال في مقدّمة المسجد والنساء في آخره؛ لأن وضعيَّة الصلاة تقتضي التواضع والحياء. لكنّهم كانوا جميعاً في مكان واحد مما سمح للمرأة بالتعبير عن ذاتها وآرائها. وبمرور الوقت، تمّ تقسيم المساجد واستحداث مداخل منفصلة لتسهيل دخول المسجد للنساء والرجال، وإن كان هذ الأمر مفهوماً؛ حيث يرجع إلى تطوّر الثقافة وتزايد أعداد المسلمين الذين يؤمّون المساجد، وتغيير هذا الطابع للمساجد أمراً صعباً على إدارتها إلا أنّي أعتقد أنّ هذا التغيير خطوة ضروريّة. والشرط الأهم، هو السماح للمرأة بفرص متساوية لدخول أماكن عبادة مستوفية لشروط النظافة والرعاية والإمكانيات الصوتية ذاتها التي تستخدم في أماكن الرجال. لكن الحال ليست كذلك اليوم، فلا يقتصر الأمر على عدم وجود مرافق مناسبة في أماكن النساء في بعض المساجد، بل إنها تعاني في حال وجدت إهمالاً مروّعاً. وهذه الأماكن عادة ما تكون صغيرة الحجم جداً، ولا تحظى بالرعاية، أو أنها غير مزوّدة بتجهيزات صوتية، أو مجهّزة لكنّ فيها ضعف في الأغلب وهو ما يصرف النساء عن ارتياد المساجد. وفي أيام الأعياد، عندما تتزايد أعداد المصلين، ربما تُضم أماكن السيدات إلى مساحات متاحة للرجال ويُطلب منهنّ أداء الصلاة في مكان آخر أو في البيوت. وفي بعض الدول أو المجتمعات المسلمة، تنتظر السيدات في السيارات في أثناء أداء أزواجهنّ أو أشقائهنّ أو أبنائهنّ الصلاة: فلا يوجد مرافق متاحة لهنّ حتى إن وقت الصلاة ينقضي من غير أن يستطعن أداء الصلاة. وهذا الوضع يشرح بجلاء الحالة الذهنيَّة المسبّبة لهذا الوضع غير المقبول البتة.

لم يتوقّف الأمر على صعوبة ارتياد النساء للمساجد، بل أصبحت مشاركتهنّ في إدارتها نادرة واستثنائيَّة وغير واردة في بعض الأحيان. فاللجان الإداريَّة والرؤساء وأعضاء المنظمات التي تدير دور العبادة تكاد تقتصر على الرجال الذين يقررون طبيعة النشاطات التي تُؤدّى فيها بموجب رؤية محدّدة تجاه أدوار الرجال والنساء والأطفال والمسجد نفسه، يتعيّن دمج النساء في إدارة لجان المساجد بقدر ما يلزم أن يكون حضورهنّ لازم في التأملات وفي المجامع الفقهية. فهذه المجامع، التي تعني ما هو أكثر من خطب الأئمة، توجّه النشاطات في دور العبادة، وتضفي معنى على المعالجة الدينيَّة لقضايا كثيرة وتؤثر (أو تفشل في التأثير) في الالتزامات الاجتماعيَّة للنساء والرجال. وفي تلك المساجد التي يشارك في إدارتها النساء والرجال، يشعر المرء بانتماء أقوى منه في أي مسجد آخر بتوافر قدر أكبر من الرعاية بتعليم الضروريات فضلاً عن التطبيقات العمليَّة التي لها صلة بالواقع: إننا بأمس الحاجة إلى هذه المساهمة المضاعفة. فالنساء يشجّعن أكثر من الرجال (كما يتجلّي في مساحات أخرى) على التعليم الروحي الذي يركّز على المدلولات بدلاً من التركيز على المقاربات الشكليَّة التي تقتصر على الشعائر والواجبات والمحظورات. فسوف يؤدي حضورهنّ في لجان إدارة المساجد إلى إصلاح المشكلات التي لها علاقة بدخول المساجد وضعف الاهتمام بها أولاً، وسيشاركن في تنظيم نشاطات المصلين بعامة، ونشاطات الشباب والمصليات بخاصة ثانياً.

غالباً ما يتم تأكيد  دور الأئمة، وهو دور حيوي بالتأكيد؛ بسبب اتصالهم بالمصلين ومعرفتهم بالبيئة الاجتماعيَّة وطلاقتهم بلغات البلدان التي لا تتكلم بالعربية. لكن يبقى القول إن المساحة الأشد تأثيراً في المساجد في المجتمعات الإسلاميَّة الروحيَّة تبدأ قبل الخطب الأسبوعية، لأن ما يضفي شكلاً على المجموعة هو طريقة تصوّر المدراء للمساجد ولدورها وتأثيرها وعلاقاتها بالسلطة. وهذا هو المجال الذي يتعيّن على النساء والرجال أن يعملوا فيه معاً، بأعداد متساوية، على تلبية الحاجات الروحيَّة والعمليَّة للمجتمع: جعل الوصول إلى المسجد في متناول المرأة، وإعطاء دروس تركز على البحث عن المعاني والروحانيات، وتعميق التأثير الإيجابي للمسجد في البيئة الاجتماعيَّة التي يوجد فيها، وتدريب الشباب ومؤانسة الفقراء، وتأسيس وجود اجتماعي منفتح وفاعل، وما إلى ذلك من أمور شديدة الأهميّة في مساحات العبادة. هناك عدد كبير من المساجد في شتى أرجاء العالم حققت وتحقق نجاحات لافتة، ويتعيّن الثناء على مبادراتهم. لكنّ الواضح أنّ المرأة لا تزال غائبة عن تلك الديناميات في معظم الحالات، وهذا يتسبّب بحالة ذهنيَّة تساهم في تجريد المرأة من حقوقها الدينيَّة، ومن باب أولى، من مراكز السلطة والإدارة الخاصة بالمؤسسات الدينيّة. ولذلك تبدأ الانحرافات من هذه النقطة بالذات، ونتائج هذه الحالة ملاحظة بصورة يوميّة في المساجد نفسها بالمجتمعات ذات الأغلبيَّة المسلمة، عليه، فإنّ اتخاذ مقاربة تركّز على المقاصد ـ كما وصفنا في القسم السابق ـ ستتطلّب إصلاحاً جذرياً  فعلياً لإدارة المساجد. هذا العمل يقتضي من المرأة المشاركة والمطالبة بحق الاضطلاع بدورها المشروع. وسواء في العالم الإسلاميّ أم في الغرب، مثل هذه المشاركة نادرة جداً، وقد التقيتُ بمسؤولين عن المساجد في شتى الأماكن وقد اشتكوا هم أيضاً من سلبيَّة المرأة في هذا الخصوص. فالمرأة، كما كل ضحايا التمييز أو التهميش، ترضخ أو حتى تنشئ العمليات التي تستغلها في المساجد كما في الحياة، وفي العمل كما في الأمومة.

_____________

* من كتاب « الإصلاح الجذري: الأخلاقيات الإسلامية والتحرر » للدكتور طارق رمضان.

 

4 تعليقات

  1. السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
    أشكرك أستاذي على مقالاتك الرائعة و المواضيع التي تكتب عنها.لذا أثارني جدا الموضوع لكوني امرأة أولا و ثانيا لاني أبحث عن و جودي كامرأة بما أوجبه الله علي من وظيفتي و هي الاستخلاف و بين تحديات المجتمع.ففي المغرب،يعطى للمرأة الحق في إعطاء الدروس للنساء و القيام بأنشطة و غيرها…إلا أنها غائبة تماما بخلاف العلمانيات عن المجتمع الذي به يمكن أن يبدأ التغيير و الإصلاح و هو مركز تجمع الطلبة و الشباب..
    فما رأيك أستاذي:هل على المرأة أن تسعى للدخول وسط هذا المجتمع أم يكفيها أن تسعى لتربية أولادها و إلقاء دروس بالمساجد التي لا يحضرها إلا العجزة و الأميات و بعض النساء اللواتي لم يجدن شيئا لملء الفراغ فالتجأن إلى المساجد؟
    ما هو دور المرأة داخل منظومة الحضارة الإسلامية؟
    و بما كلفها الله أساسا؟

  2. أظن ان الوضع عندنا في روسيا وخاصة الأقليات المندمجة في المجتمع ، قد يعطي قدوة في هذا المجال فالمرأة المسلمة عندنا الروسية هي من يجر قطار الدعوة وليس الرجل …
    أقول المناطق التي نجح فيها الاندماج المتوازن

Répondre à إيمان خياطي إلغاء الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا