الصوم مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم: تأملات رمضانية في السيرة 1

الله واحد والدين واحد
قال تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون”
وقال: “وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ۗ”

في محاولةٍ لفهم حقيقة الصيام ورسالته الأساسية، نتأمل في سيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لنرى ما الذي ينبغي علينا استحضاره والعمل به في هذا الشهر المبارك.
ففي البداية وقبل كل شيء، علينا أن نتحقق في صيامنا بـأمورٍ ثلاثة: إسلام الوجه لله تعالى بالاعتراف له بالعبودية، والتحصن بالعمل الصالح والإحسان، وإتباع ملة إبراهيم عليه السلام بالدخول في سِلم الله تعالى.

العطاء
عندما قال الله تعالى مخاطبا نبيه الكريم: (ألم يجدك يتيمًا فآوى ووجدك ضالاً فهدى) أتبع ذلك بقوله: (فأما اليتيم فلا تقهر وأما السائل فلا تنهر) فكأن تجربتك اليتم والحرمان تدفعك لأن لا تنهر سائلا أو تقهر يتيما. وهكذا الصوم، نجد فيه هذا المعنى الدقيق في المنع مع البقاء: فأنت لا تشرب ولا تأكل ولكن تظل في بقائك لتتضامن مع الفقراء بعد تجربة الحرمان. فهذه أيام سلام وصفاء ومنح وابتسام، شهر رمضان هو شهر جهاد السلام، هو شهر الود والتشارك الاجتماعي، اللهم اجعلنا من مجاهدي السلام

الإيمان والبيئة
قال تعالى: (ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعةً فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزتْ وربتْ إنَّ الذي أحياها لمُحْيي الموتى) هنا لا بدّ أن نعي أنّ الطبيعة تتواصل معنا وتوحي لنا معاني الحب والحياة، والنبي عليه الصلاة والسلام كان في الصحراء، يقرأها كما تُقرأ الكتب. فعلينا أن ننظر في السنن والعلامات الكونية التي تخبرنا أن بعد كل حياة حياة، وهذا ما يذكّرنا به الله تعالى في الآية الكريمة.
وبينما نحن صائمون، لا بدّ أن نتصالح مع هذه الطبيعة ونعي هذه الرسالة الأساسية.

الحق والخُلُق

اتصف النبي عليه الصلاة والسلام – وحتى قبل الرسالة- بما يمكن أن نسميه « التميز الأخلاقي. » هذا التميز ظهر من خلال علاقته بالوقت والواقع والبيئة والناس حتى أسموه الصادق الأمين، ولذلك بعثت إليه السيدة خديجة في تجارتها لما سمعت عن صدق حديثه، وعظم أمانته، وكرم أخلاقه. وقد اصطفاه المولى للرسالة من أجل هذه الصفة فقال تعالى: « وإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيْم. »
ونحن بحاجة إلى أن نتحقق ونتخلق بهذه الصفة ونحن صائمون: أن نكون أهل ثقة وحق وخلق.

الحكمة والمصالحة بين الناس
كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم في تعامله مع صحابته الكرام ومع القادة وأولي الرأي في زمنه يتسم بما يمكن أن نسميه: « التعاطف الفكري: intellectual empathy » ويعني القدرة على رؤية الأمور من منظور الآخرين، فتمكن من الفهم الأعمق لما يقولون والقدرة على الحكم والمصالحة بينهم.

ومن الأمثلة المشهورة على هذه الصفة قصة بناء الكعبة قبل الرسالة، عندما حكّمه قادة العرب في أولوية أحدهم في وضع الحجر الأسود في مكانه في الكعبة، ثم بعدما سمع إليهم وتفطّن إلى أهمية هذا الشرف عند كل منهم، استطاع أن يجد حلا يأخذ بعين الاعتبار هذه الرؤية ويسعى إلى المصالحة بينهم، فوضع الحجر في ردائه وطلب من كل منهم أن يسمك بطرفه حتى حملوه إلى الكعبة.

هذه المصالحة وهذه العاطفة الفكرية مفهوم أساسي في الإسلام، قال تعالى: « إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم » وبينما نحن صائمون علينا أن نعمل على المصالحة بين الناس وإقامة العدل والسلام بينهم.

العزلة والبحث عن الإجابات
في حديثنا عن السيرة النبوية، التركيز غالبا يكون على المعارك التي خاضعها المسلمون ونتائجها، بينما ينبغي علينا أن نركز على التعاليم الأساسية المستقاة من حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل وبعد تلقيه الرسالة؛ لأن ما كان منه قبل الرسالة هي مقدمات لها. ومن هذه التعاليم المهمة: مواجهة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للأسئلة المؤرقة بداخله فلم يرضَ أصنام مكة آلهة له ولم يقْنَع بما يقول أهلها فأخذ يبحث عن إجابة، وفي سبيل هذا البحث، اختلى بنفسه وعزل نفسه عن الناس في غار حراء حتى أتته الإجابة من الله تعالى.
هكذا علينا أن نتبع سبيل النبي في المواجهة والبحث والاختلاء حتى نصل إلى الإجابة، وسوف نصل إن شاء الله، وشهر رمضان هو الوقت الأمثل لهذه الرحلة ولهذا التأمل.

نور العقل والقلب
كان اعتكاف النبي صلى الله عليه وآله وسلم في غار حراء بمثابة رحلة البحث عن الحق وسلامة القلب، وعندما جاءته الإجابة من الحق تعالى وجاءه جبريل عليه السلام اتصل نور الحق بقلبه فآمن. هذه العلاقة العميقة بين الإيمان والحق مفهوم أساسي في الإيمان، فأنت تبحث عن الحق، وذلك يعني أنك تبحث عن السلام، ولا سلام دون حق ، والحق هو الله تعالى. من هنا تفهم أن العلم هو نور إيمانك كما أن إيمانك هو نور العلم. قال تعالى: « اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، الذي علّم بالقلم » فهناك قراءة للخَلق وهناك قراءة بالقلم، قراءة للكون وقراءة للكتاب.

تعميق الإيمان يتأتى إذن بتعميق القراءة، وفي صيامنا ونحن نبحث عن السلام لقلوبنا، لا بدّ أن نتذكر أنه لا سلام للقلب دون نور العقل، وأن هذا هو جوهر الإيمان. والله هو الحق العليم.

المقاومة
لما جاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم الوحيُ، ورفضه الناس وعادوه وأصموا آذانهم عن ما يقول، انقسموا في معاداته إلى قسمين: هؤلاء الذين خافوا من تغيير ما كان عليه آباؤهم، وهؤلاء الذين خافوا على سلطتهم وقوتهم من ما يدعو إليه. وقد قاوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذا الصمم وذلك الخوف بالصبر والمثابرة حتى نصره الله تعالى.
هكذا في صيامنا ينبغي أن نتذكر أن الصوم هو مقاومة وضبط للنفس لما نخاف منه وعليه سعيا لتغيير أنفسنا وتغيير العالم من حولنا للأفضل. فعلى سبيل المثال، الصيام ضد الثقافة الاستهلاكية والإدمان الشرائي ومقاومة هذه الثقافة مما لا يُرضي النظام العالمي، ولكن بالثبات على هذا المبدأ الإسلامي ومقاومة الرفض والنقد بالإيمان والحكمة سوف نغير ونتغير إن شاء الله.

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا