التحاور-مقدمة كتاب « خطورة الأفكار، إدغار موران وطارق رمضان »

إن مصطلح الحوار يملك ما يكفي من المعاني لإثارة الغموض. في المقابل، يقصد بالفعل « تحاور » بكل بساطة ، « الحديث مع شخص ما، أو التشاور بشأن موضوع ما »، وإذا كنا مقتنعين بقاموس إيميل ليتري (Littré) ، فالمقصود هو التحدث مع العديد من الناس، بشرط ألا يتعدى عدد المتدخلين أو المحاورين ثلاثة أفراد. ولهذا نجد الحوار ملائما عندما لا يتعلق الأمر بمجرد مقابلة. إن فكرة جمع شخصيتين يقوم بمساءلتهم طرف ثالث، لا يغير إمكانية الحوار بكل حرية؛ فالنقاش ليس ممكنا إلا بهذا الثمن.
أكثر من هذا، فمن أجل أن يتحدث ضيوف الحوار، ويبرزوا مواهبهم الخطابية، يجب أن تكون بعض المقدمات مجتمعة، بخلاف الفكرة الشائعة التي تقول أن النقاش ممكن حول جميع القضايا دون قواعد مسبقة. الأكثر جبنا يعتقدون أن الأمر ليس ممكنا إلا بين عقليتين راقيتين، ليس لأن الحوار سيكون سلسا، ولكن لأن الحوار سيكون ماتعا. المطلوب أكثر من ذلك هو ألا يكون الحوار مبتذلا ومملا، فلا معنى للحوار دون الإصغاء إلى الآخر، ودون استعداد مشترك لنترك الآخر يعبر تعبيرا كاملا عن آرائه، ويتفاعل مع الحوار، ويقدم براهينه.
و لهذا السبب، لم تعد هذه الأدبيات ملائمة ، فمعظم شبه الحوارات التي يجريها الصحفيون ليست إلا مجرد استجوابات. فالصحفي في غالب الأحيان، لا يكتفي فقط بمنع المستجوَب من إتمام كلامه، بل يحرف ما سمعه بذريعة إنعاش الحوار. يكفي أن ينطق المستجوَب بكلمة معزولة، لينقطع الخيط الرابط، وتصبح الحجج تستجيب فقط لأوامر الخطاب. يحدث كل هذا كما لو كان الذي يستجوِب يريد فقط أن يثير انتباه الآخرين إلى تدخله، وليس إلى مضمون الأجوبة. ولا حاجة للحديث عن التعليقات التي تعقب الحوار، والتي تحاول أن تفرض علينا استيعاب ما سمعناه في حوار من هذا القبيل. هذا ليس حوارا بتاتا، بل يعتبر تمرينا، أو تمثيلا، أو طريقة معينة تريد أن تجعلنا نشعر أن السلطة بيد الشخص الذي يستجوِب، وليس بيد الشخص الذي يجيب.
لهذه الأسباب، ولأني لست صحفيا علاوة على ذلك، رفضت أن أجري الحوار على هذا المنوال، بل تركت الكلمات في حركة ذهاب وإياب، وتأخر وتردد أحيانا، كما تركت لها المجال لتتضح أكثر. تأتي بعض اللحظات، تشعر أن الكلمات تسترسل بكل حرية، حيث لا ينبغي آنذاك التدخل حتى لا نفرض القيود على الكلمات، أو نكون سببا في إخفاء مضمونها، أو إبطاء مفعولها. إن الاستسلام والاستجابة لهذه المحاولة سيكرس لغة الخشب.
إن إدغار موران وطارق رمضان مثقفان واعيان تمام الوعي بالمقدمات التي يفترضها فن الحوار، كما أنهما يحترمان رأي الآخر إلى أبعد الحدود، حيث لا يمكنهم أن يغيروا مضمونه أو يقوموا ببتره، وهكذا بوضع هذه الأسس قبل الحوار، تمكننا من تبادل الأفكار بكل إيجابية التي يفترضها الحوار.
إن المواضيع المرغوبة والتي تم الاتفاق عليها، تم تحديدها دون مقاربة إقصائية أو تمييزية؛ فقبل يوم من الموعد، أخذت وجبة عشاء مع إدغار موران الذي اقترح مواضيع أخرى، التي من المفترض أن تضيف مجالات اهتمام أخرى. وكل واحد كان يعطي للآخر الحق في إضافة مواضيع أخرى، على طول الحوار، وهو ما كان يغني الحوار ويكمله. وكما جاء في أساطير لافونتين :  » الأشياء التافهة، والعلم والأسطورة، واللاشيء؛ كلها أمور جيدة؛ أنا أؤيد فكرة التطرق إلى جميع الأمور في الحوارات، ولو جزئيا « . وهكذا كان الأمر في هذا الحوار. في البداية، كان الإطار الرحب والجامع الذي بدئنا به الحوار، وهو التصور حول الإنسان، الذي كان بمثابة أساس فكري الذي تم البناء عليه، وتطويره من خلال تدخلات المحاورين. هناك مواضيع أخرى كانت من أهداف الحوار، سواء وقع الاختيار عليها أو لم يقع، وهي : التربية، والأخلاق، واللغز، والدين، والعلوم، والسياسة، والقضية الفلسطينية بطبيعة الحال، والجمهورية المتعددة ثقافيا، والعلمانية، ومفهوم الاندماج، والهوية، والعولمة، والتسامح، والاحترام، والشعبوية، واللغة، والأمل، والقانون، والعفو… هذه المواضيع يربطها النظام الداخلي للحوار، والفكر الخاص بالمتحاورين، وتربطها كذلك الشروط المسبقة التي تم وضعها والاتفاق بشأنها قبل الحوار.
لا نتحدث أبدا عن الظروف التي تسبق الحوار؛ نذكر على سبيل المثال، الخطاب التلفزيوني الذي أصبح مشهورا، والذي ألقاه فرانسوا ميتران عندما استقبل الصحفي القباش في 12 شتنبر 1994 . فالرئيس كان في حالة مزرية ، حيث كانت قواه خائرة، وخرج بالكاد من بيته، ونهض من سرير المرض الذي كان ممددا فيه، بسبب تداعيات مرض السرطان. كان يعتقد الصحفي أن الرئيس يحتضر، لكنه تفاجأ من رؤية هذا السياسي العجوز يستعيد قوته للإجابة عن أسئلته… إنها حالة قصوى. وبالمناسبة، وفي هذا اليوم، لم يستطع الرئيس أن يقنع أحدا، وحتى قضية بوسكي(Bousquet) كانت ستفسد ما تبقى من ولايته التي امتدت سبع سنوات.
بالنسبة ل »حوار مراكش »، كانت الظروف مثالية. لم يكن هناك أي توتر، حيث كان الظروف المناخية رائعة، كما كان المكان هادئا ومريحا، تزينه نافورة، ولم يكن هناك أشخاص مزعجون أو ضجيج مشوش… طارق الذي وصل في الصباح، آتيا من لندن، كان متعبا؛ في حين أن إدغار موران بصحبة زوجه صباح أبو السلام، كان مزاجه جيدا، كما هي عادته دائما، وكان يبدو في حالة جيدة. لم يكن هناك أي تخوف، وكان التعاطف متبادلا وفوريا، وكانت الأجواء مريحة. إذن هذه هي الظروف المثالية التي سبقت هذا اللقاء الأول من نوعه.
لقد جرى الحوار الذي امتد على مدى يومين في 23 و24 يونيو 2013 . في صباح اليوم الأول، امتد الحوار إلى بعد الظهر، وكان شعورنا بالجوع هو الذي جعلنا نوقف تسجيل الحوار، وخشينا أن ينتهي موعد وجبة الغذاء المخصصة في المسبح! حيث كان يلزمنا أن نطلب منهم أن يبقوا ليقوموا بخدمتنا، ولو بقليل ما تبقى عندهم. وحيث أن الجميع في مراكش يعرفون طارق رمضان ويقدرونه كثيرا، كنجم من نجوم الروك، بقي المقصف مفتوحا، كما لو كان ذلك بمفعول السحر. استمر الحوار أثناء وجبة الغذاء، لكن دون تسجيل، وفجأة أحسسنا بالحرارة، فركنا إلى صالون هادئ، لنتطرق بنفس أجواء الحرية إلى المواضيع التي تركناها معلقة.
في اليوم التالي، أصبحت المودة صداقة، وكل واحد تفاجأ من وجود التقارب في الأفكار و وجود البساطة، و الحقيقة، والتي لم تكن نادرة بل مواسية. رغم ذلك، فقول الحقيقة يعني أن تكشف عن أفكارك وآرائك وأن تصبح كذلك مستهدفا من الطرف الآخر، ولا يمنع التعبير عن أفكارك بدون تكلف وتصنع ألا يتلقاها الآخر دون احترامها أو دون احترام حامل هذه الأفكار. إذن لم يغش أحد، ولو لثانية واحدة. في بعض اللحظات، لم أنسحب من الحوار، بل فضلت عدم التدخل في الحوار، حيث لم تكن الحجج في حاجة إلى إثارتها بملاحظة غير مجدية. إن حركة الفكر ليست في حاجة إلى وصي، أو إلى دافع خارجي لتستمر في سباقها، فالفكر يملك بنفسه مقومات تجعله يتقدم إلى الأمام. ومن المهم أن يكون القارئ واعيا أثناء قراءة هذا الحوار أن الرجلين (طارق وإدغار) الذين يبدوان مختلفين للغاية، حيث ينتميان إلى فضاءات مرجعية مختلفة، لم يجدا مشقة بتاتا في التوافق، كما خرج الحوار أكثر نضجا وإنسانية من هذا التبادل المثمر والرائع على مستوى الأفكار، رغم أن هذا التبادل كان حاويا لآراء ليس بالضرورة متوافق بشأنها. المهم يكمن في مستوى الخطاب والاحترام الذي يحرك المتحاورين.
لم نكن نتوقع أننا سننهي هذه المقابلة الطويلة جدا حول العفو، لكن هذا الموضوع الذي تم التطرق إليه بعمق وبكثافة، وبشكل غير مألوف، فرض علينا أن ننهي الحوار عند هذه النقطة، كما لو كانت هناك رغبة في توسيع نطاق الحوار حول ما يبعث على الأمل …
كلود هنري ديبور

2 تعليقات

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا