تساؤلات حول قضية العلمانية في الغرب (تتمة)

إدغار موران: لقد أصبح تأويل العلمانية  سببا في صراعات محمومة وخاضعة للطائفية. لماذا؟ لأنها فقدت جوهرها، ولهذا السبب أصبحنا نتعلق فقط بأشكالها. إن جذور العلمانية في الأساس هي موضع الجدل، كما ترجع أساسا إلى فكر الأنوار. لقد كان هذا الفكر يسائل قضايا عديدة من قبيل الطبيعة، والعالم، والإله، والإنسان، والمجتمع. الآن، لم يعد العالم وحده موضع التساؤل، بل حتى أداة العقل  يجب أن تخضع الآن للتساؤل، بحكم النقائص التي تعتريها. إن الفكر العلماني، كما تشكل في فرنسا، أفرغ من محتواه، لأن التاريخ لا يتجه بشكل آلي إلى التقدم، كما أن العقل لا يعتريه النقص فحسب، بل له أمراضه، التي شجبها مفكرون أمثال تيودور أدورنو، وماكس هوركهايمر. وبالتالي، أصبحت العلمانية التي تم إفراغها من محتواها تهتم فقط بالمظاهر الخارجية، كالحجاب مثلا.

أعتقد كذلك أن العلمانية الفرنسية لم تتجدد انطلاقا من جذورها التاريخية، التي تتجلى في المساءلة، لأن المساءلة المستمرة للأسس التي بني عليها العالم والفكر والحقيقة، تعتبر من قيم الفلسفة الأوروبية، لا سيما الفلسفة الفرنسية، منذ القرن السادس عشر. لم تعد كل هذه القيم موجودة في العلمانية المعاصرة، وكل ما تفضلتم به حول هذه النقطة صحيح.

طارق رمضان: فيما يتعلق بالعلمانية وعلاقتها  بالعلمانوية التي تدعو إلى إقصاء الدين من الشأن العام ، أرى من المهم الرجوع إلى عصر النهضة، وإلى مصادر الفكر الإنساني والأفكار التي طورها هذا الفكر. لقد كانت فكرة العلمانية في الأساس تفترض فصل السلطات، حتى لا يؤثر الشأن الديني على الشأن السياسي، كما تقتضي احترام تنوع المعتقدات دفاعا على حرية التفكير والاعتقاد. يتعلق الأمر كذلك بالدفاع عن الفضاء العمومي الذي يقوم على قبول التنوع والقيم الكونية. لكن مع مرور الوقت، قام البعض بتغيير جوهرها. لقد اختزلوا مسلسل العلمنة في مهاجمة الدين ومحاربة وجوده في المجتمع. فعوض أن يعمل المثقفون والسياسيون على مأسسة التعددية الدينية انطلاقا من استقلالية الدولة وحياديتها، جعلوا من العلمانية وسيلة لإقصاء الرؤية الدينية من الحياة العامة. بعبارة أخرى، أينما حل العقل، لا يمكن القبول بالتعامل مع الدين. فنحن هنا أمام نوع من الاستعلاء في الفكر الفلسفي والسياسي.

إن العلمانية في نظري هي ذلك المسلسل التاريخي الذي يقتضي فصل الدولة عن الكنيسة، وهذا ما أتفق معه، في حين أن العلمانوية توظف العلمانية لمحاربة الدين، وأنا أعارض هذا الانحراف. إن الفضاء العمومي الذي من المفروض أن يبقى منفتحا على التعددية، أصبح منغلقا وصار هدفه هو إقصاء الفكر الديني، هذه هي النقطة الأولى. النقطة الثانية تتجلى في التصور الذي يحملونه حول الإسلام، حيث جاء وضوح الرؤية متأخرا، وقام بمساءلة الحيادية الظاهرة لهذا الفضاء. فهم يقولون: هؤلاء المسلمون المهاجرون الجدد الذين قدموا من بلدانهم، يعملون على إعادة الاعتبار الآن للشأن الديني، في حين أننا تخلصنا منه منذ مدة. وبالتالي، ينظر إلى وجود المسلمين ك….

كلود هنري ديبور : …كعنصر مربك لهذا الحفل، إضافة إلى كون الكنيسة تبدو مبتهجة اليوم بالعلمانية الفرنسية.

طارق رمضان: تماما.

إدغار موران: أظن أنكم تبالغون حول بعض النقط. يبدو أنكم تخلطون بين معاداة الدين، وبين الإلحاد المناضل والملتزم بمبدأ العلمانية. بالطبع، كان العديد من العلمانيين معادين للدين، بل ملاحدة. حتى أنا لم أستطع الإيمان بالديانات السماوية ولا بوجود إله، لكن المؤكد هو أن المبدأ الذي يقضي بأن الدين شأن خاص، وأن الدولة تستمد مشروعيتها من المؤسسات التي تمثل السلطة السياسية المنتخبة ديموقراطيا، هو مبدأ صحيح. أما إذا كان وراء ذلك صراع تاريخي، فهذه قضية أخرى، لكن هذا الصراع لا يعزى فقط إلى فكر الأنوار الذي قام بتحييد الدين كحقيقة سماوية، كان كذلك الصراع الذي خاضته الثورة الفرنسية من أجل تحقيق الحرية والمساواة والأخوة، والتي أصبحت شعار الجمهورية، وشعار أحزاب اليسار التي عملت تحت قيادة حكومة يسارية ويسار الوسط على فصل الكنيسة عن الدولة. إذن لا يمكن الخلط بين الأمرين…

طارق رمضان : لا، بطبيعة الحال. كنت أود أن أقول أن التمييز بين السلطات، لا سيما التمييز بين سلطة الدولة والسلطة الدينية، أمر صائب ويجب الدفاع عنه. ويجدر بالذكر أني أدافع عن هذا الاتجاه في مذهبنا الإسلامي. كما أؤكد أن الإسلام أسس تاريخيا لهذا التمييز في الحقوق، كما أن المجتمعات ذات الأغلبية المسلمة قامت بتفعيله في الواقع. وهذا ما يؤيده إلى حد ما الفيلسوف الفرنسي ألان دولبيرا. لقد أفاد الفيلسوف في دراسته للفكر الفلسفي والسياسي الإسلامي في القرون الوسطى، أن المفكرين والفقهاء كانوا يعملون على التمييز بين السلطات. إن الفكرة التي تقول، أن الإسلام لا يميز بين السلطات وأن النظام السياسي ثيوقراطي، هي فكرة خاطئة. وبالتالي أعارض الخلط بين السلطات حتى داخل التراث الإسلامي.

أود أن أقول كذلك على غرار ما قاله السياسي الفرنسي جوريس، أن هناك سياسات تدافع عن المبدأ المؤسس لفصل السلطات دون الرغبة في تجاهل الشأن الديني، وهناك سياسات أخرى طورت الفكر النضالي المعادي للدين. هذا التيار الأخير، هو تيار العلمانوية. فهنا نخرج إذن من الفكر العلماني لندخل في نطاق آخر. ففي وجود الأيديولوجية العلمانوية، نكون كذلك الثعبان الذي يقضم ذيله ؛ فنحن ناضلنا من أجل ترسيخ قيم التعدية وحيادية الفضاء العام، وإذ بنا نجد أن العلمانية تأسست كدين جديد تعمل على إقصاء جميع الأديان الأخرى، وتمتلك عقيدة ومبادئا وطقوسا كما تمتلك القدرة على التكفير.

إنها حقا معضلة حقيقية. لقد فكر مؤيدو التيار الإلحادي المناضل بقطع العلاقة نهائيا مع الدين ورؤيته، والآن جاء المسلمون لخلط الأوراق. فالحجاب، والمساجد، والصوامع، والهيئة، والأسماء الشرقية الإسلامية كلها دلالات على هذا الوجود المزعج. لقد صدقتم عندما قلتم أننا نهتم بالمظاهر، كالحجاب مثلا. لنتساءل إذن لماذا أصبحت هذه المظاهر تحتل أهمية كبيرة في الوعي الفرنسي. إن الأمر يتعلق بالرؤية الجديدة والواضحة للدين الذي يأبى الأفول والإبادة. إن أساس المعضلة لا يتعلق بالإسلام أو بالمسلمين أو بالأديان، بل بإساءة فهم العلمانية.

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا