تصور الإنسان في الإسلام

إذا استوعبنا بوضوح علاقة الخلق بالخالق سبحانه وتعالى، يمكننا آنذاك إدراك مفهوم الإنسان في الإسلام بصورة أكثر دقة. إن فهمنا للخالق سيتيح لنا وضع معالم للطريق وفهم معنى الحياة. فبيقظتنا ووعينا ومعرفتنا بالله تعالى، يمكننا أن نعطي تعريفا للإنسان في الإسلام. قال تعالى :  » وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي »، يعني أن الله تعالى نفخ في بني آدم هذا الإقرار المتأصل بوجود الله تعالى.

يجب أن نكون أكثر وضوحا، كما هو الشأن بالنسبة لمفهوم الدين، خصوصا فيما يتعلق بالمصطلحات المستعملة والتعاريف لنتجنب التقديرات والكلام السطحي، خصوصا عندما يتعلق الأمر بعرض قيم ديننا ومبادئه، أو عندما يتعلق الأمر بالدخول في حوار مع الأديان الأخرى. نحن نعيش في مجتمعات تختلط فيها الأديان وتتعايش فيما بينها، ومن واجبنا أن نكون متطلبين أكثر في الحوار حتى نبقى أوفياء لهذه الأديان. بإمكاننا، بل من واجبنا، أن نقبل بالاختلافات الموجودة وحتى بجميع أشكال المعارضة، لكن من واجبنا كذلك أن نعطي الإمكانية للآخر حتى يفهمنا أكثر، ويعرفنا جيدا لنكون على علم بما يجمعنا به وبما يميزنا عنه. لكن العديد من الناس يزهدون في هذا الأمر الذي يعتبر أمرا لا مفر منه.

النور والنفخة الإلهية

يتميز الإسلام عن غيره من الأديان بالتعريف الذي يعرف به الإنسان، لأنه يضع الإنسان في مقام مختلف عن الأديان الأخرى. يتحدث الوحي الإلهي في الآية السابعة من سورة الأعراف عن تصور معين تجتمع حوله جميع التيارات الفكرية الإسلامية، لأنه تصور أساسي وجوهري. وكما نعلم، فالإسلام كباقي الأديان الأخرى، يؤمن بأن الله هو الذي خلق آدم وحواء ومنهما تفرعت البشرية. في حين أن نظرية تطور الأجناس لصاحبها داروين تعترض على قضية الخلق كما يتصورها الدين المسيحي. لا يرفض الإسلام مثل هذه النظرية، بحكم أننا نجد في بعض النصوص من القرآن فكرة تطور الأجناس، فهي مقبولة تماما دون مساءلة مسألة خصوصية الخلق في فترة معينة من هذا التطور. من ناحية أخرى، لا يملك علماء الأحياء أجوبة حاسمة فيما يتعلق بأصل الإنسان، ومازالت مختلف الفرضيات موضع النقاش إلى حدود الساعة.

جاء في القرآن الكريم، فيما يخص مسألة الخلق، أن الله تعالى عندما خلق البشر، جمعهم وأشهدهم قائلا :  » ألست بربكم؟، فأجابوا قائلين : « بلى شهدنا » (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا). إذن كل نفس أودع الله تعالى فيها هذه النفخة الإلهية وهذا التطلع إلى السمو والبحث عن الروحانية. في هذا الصدد لم يَكُفّ المؤرخ والكاتب الروماني ميرسيا إلياد(Mircea Eliade) في جميع إنتاجاته الأدبية بذكر هذا البعد الديني والروحي الذي يعتبر جُزْءاً لا يتجزأ من بنية الوعي البشري. نجد كذلك في الإسلام هذا التطلع الذي يحرك قلب كل إنسان، والذي يدفعه إلى البحث عن شيء سام وروحاني. وهو ما نسميه بالفطرة، وهي بمثابة تطلع متأصل في عمق كل إنسان إلى السمو الروحي. إذن في عمق كل إنسان، بل في أعماق أعماقه، نجد تلك الشرارة التي تسكن في دواخله وتدعوه إلى البحث عن السمو، وهو تطلع موجود فينا ونشعر به قبل أن نعي به. هذه الشرارة نسميها نورا، وهي التي تحرك البشر عبر الزمان، ويؤكدها التاريخ المقدس؛ هذا النور هو بمثابة وحي سبق نزول جميع أشكال الوحي عبر التاريخ.

يسكن هذا النور كل فرد منا، ويزداد وهجه شيئا فشيئا، دون أن نكون واعين به تماما. لقد أنزل الله تعالى الوحي على رسله عبر التاريخ، ليلتقي بهذا النور الكامن في دواخل الإنسان ويقويه. وهكذا يلتقي النوران، نور الوحي المنزل جاء ليلتقي ويوقظ هذا النور القابع في القلوب. لقد شكل إسهام الفقيه الصوفي والملقب بحجة الإسلام أبو حامد الغزالي ثروة غنية سواء على المستوى العلمي أو الفكري أو الصوفي، حيث بدأ ببلورة تفكير عميق حول هذين النورين المتكاملين كما جاء في الآية القرآنية  » نُورٌ عَلَى نُورٍ » ، كما قام بذلك العديد من العلماء والصوفية.

إن نور الوحي جاء ليلتقي بنور القلب. فكل إنسان يقبع في داخله هذا النور الأصلي كما جاء في الإسلام، وكل إنسان مدعو إلى رعاية هذه البذرة الإيمانية حتى تكبر وتنمو، لنكون شهداء على وجود هذا النور في دواخلنا. إن هذه النظرة إلى الإنسان تتناقض بطبيعة الحال مع نظرة الفيلسوف الفرنسي ألبير كامي(Albert Camus) الذي يعتقد أن الإيمان ينبعث عندما يعجز العقل عن التفكير، فهو يتكلم عن  » القفز » ((Saut. في الإسلام، يأتي العقل لتأكيد ما صرح به الإيمان وتمديده، إذن الأمر مختلف، عن نظرة كامي، فالإيمان هو الشرارة الأولى، والعقل يأتي لدعمه وتقويته. بعبارة أخرى، إذا قال باسكال :  » للقلب دوافع لا يستوعبها العقل « ، فالإسلام يقول عكس ذلك، ويغير اتجاه هذه القولة بتأكيد أن :  » للقلب دوافع سيُقِرّها العقل ». إذن النفخة الإلهية سبقت العقل، والعقل يقر بما أودعه الله تعالى في دواخلنا من خلال الوعي، وعن طريق الوسائل المتاحة، والتي وضعها الله تعالى رهن إشارتنا للوصول إلى معرفته تعالى.

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا